قطاع غزة:
لا يناديه الناس "عمر"، يقولون "هذا طفل الحرب"! كيف لا؟ وهو الذي عاند النار وخرج إلى الحياة يبتسمُ بعد ولادةٍ "مُرة". في البيت، وعلى يد أبيه وجدته!
بدأت الحكاية مساء السادس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر للعام 2023م، عندما بدأت أنّات ريم شمالي تخترق قلب زوجها أحمد وأطفالها الثلاثة، إيذانًا بولادةٍ تقترب.
كانت ريم تبكي وتدعو تحت جحيم السماء التي لم تنطفئ نارها لحظة: "أرجوك يا رب. ليس في هذه الليلة". كانت تواسي نفسها بصوتٍ مرتفع: "هذا ليس ألم مخاض. هذا بسبب الخوف وشد الأعصاب فقط"، تتحسس بطنها وتبكي، وتتوسل لأحمد "افعل شيئًا أرجوك".
حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على المدنيين في قطاع غزة كانت في أوجها تلك الليلة. الاتصالات قُطعت بشكلٍ كامل، ولا أحد يسير في الشارع يمكنه المساعدة في ظل جنون القصف على المغازي حيث تسكن وعائلتها الصغيرة.
تمام الثامنة بدا الأمر جدّيًا تمامًا "إنها حالة مخاض"، فقد مرّت بها ريم ثلاث مرات من قبل، وفي كل مرةٍ كانت تحتاج لطبيبٍ خاص، وجهاز شفط للمولود، والكثير من الرعاية بسبب وضعها الصحي الحساس أثناء الحمل.
لا مجال للاتصال بسيارة إسعاف، ولا مجال لأن تسير سيارة مدنية في أي شارعٍ قريب تحت وطأة هذا الرعب الذي تصبه طائرات الاحتلال حممًا عشوائية. "كانت مغامرةً كبيرة، أن ينزل زوجي إلى الشارع بحثًا عن المساعدة" تقول.
بحث أحمد وقتها عن قابلة، كان يطرق الأبواب بجنون، ويسأل كل من يفتح عن قابلةٍ قريبة. لا أحد يعرف أحدًا، والبيوت التي أخطأها الدمار نزح أهلها وتركوها نحو الجنوب، والباقون مثله! ليسوا أطباء ولا خبراء في هذه القصة.
تضيف: "أطفالي عاشوا التفاصيل معي. خافوا مني لشدة صراخي، وخافوا عليَّ أيضًا".
اختلطت صرخات ريم بأصوات القصف الشديد الذي حول المنزل لأرجوحةٍ تهتزُّ يمينًا ويسارًا لكن دون متعةٍ ولا ضحكات. بطريقةٍ مرعبة جرفت في طريقها مئات الأرواح والأمنيات.
تتابع: "عاد زوجي وقد قرر بعد نحو ثلاث ساعاتٍ أن يساعدني هو! يساعدني للولادة بأدواتٍ بدائية موجودة، قال لي: "ليس من خيارٍ أمامنا إلا هذا.. الله معنا لا تخافي".
بدأ الطفل يحارب بقوةٍ للخروج. ولم يعد هناك مجال أمامها سوى قبول الأمر الواقع. كان زوجها بطلًا -تصفه- وقد ساعدته أمه، التي حاولت قدر المستطاع دفع الجنين للخروج بسهولة، بينما ريم تنظر ناحية السقف. خائفة، شاحبة، يقتلها الخوف من القصف.. خوفها على أطفالها الباكين في الخارج، وخوفها على الجنين الذي سيخرج إلى هذه الحياة "ابن حرب".
تكمل: "ودعتهم جميعًا. أوصيتهم بأهلي المحاصرين في غزة، ودعوت لغزة بالفرج القريب، ولي برحمةٍ من الله.. رحمةٍ من جحيم هذه الحرب".
لكن ماذا حدث؟! لم تستغرق الولادة أكثر من ساعة! وهذا لم يحدث في كل الولادات الأولى داخل المستشفى، وعلى أيدي أمهر الأطباء. لم يحتج الطفل لشفط، وكانت "أسهل ولادة". تعلق بابتسامةٍ بالكاد شقّت وجهها: "لقد لطف الله بي وبجنيني، ورفق بحالي تحت الموت الذي يتربص بنا من كل جانب".
طفل الحرب، لم يُسمى هكذا لمجرد أنه وُلد تحت القصف، بل لأنه نزح مع والدته المرهقة بعد أيامٍ قليلة من ولادته إلى جنوبي القطاع، وسالت عليه مياه المطر داخل الخيمة، ولأنه حُرم من الحليب الصناعي والحفاضات التي وصلت أسعارها ذات يومٍ لأكثر من 100$ للكيس الواحد.
سُمي عمر بطفل الحرب، لأنه عاش ويلات النزلة المعوية بسبب انتشار العدوى، والأوبئة الناجمة عن قلة النظافة والاكتظاظ في مخيمات النزوح، لدرجة قررت عائلته العودة إلى منزلها في منطقة المغازي رغم خطورة الوضع. "الموت يدور حولنا في كل الأحوال، وفي كل الأماكن. إن لم نمت من القصف، سنموت من الأمراض المعوية والصدرية والجلدية المنتشرة" تختم أمه التي بدأت تعد العدة لرحيلٍ جديد من مواصي رفح بعد اجتياح المدينة من جهة الشرق أول أمس.