غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
هربت إيمان قلجة برضيعها من حرارة الخيمة إلى شاطئ البحر في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، أسوة بحشود كبيرة، الغالبية منهم من النازحين الذين لم يكن أمامهم سوى البحر متنفسًا بعدما تحوّلت الخيام إلى جحيمٍ لا يطاق، وقد غزاها الذباب والبعوض والحشرات.
النزوح الأول لإيمان (33 عامًا) برفقة زوجها وطفليها، كان من منزلها في مدينة غزة إلى مدينة خان يونس جنوبًا. كانت حينذاك حاملًا في شهرها التاسع، ووضعت جنينها في مستشفى الأمل، لكن بمجرد محاصرة منطقة الصناعة هناك، اضطرت للنزوح إلى خيمةٍ قرب الشاطئ في منطقة المواصي برفح.
عقب تواجدها في الخيمة، تعرض أطفال إيمان للكثير من الأمراض الجلدية والمعوية نتيجة انعدام النظافة وشح المياه، وهذا وحده كان سببًا كافيًا للجوء إلى البحر بين الفينة والأخرى من أجل توفير مياه لاستحمامهم وإشغال وقتهم المزدحم بالمناوشات والصراخ.
وعلى غرار إيمان وأسرتها، تكتظ شواطئ البحر في هذه الأيام الحارة بآلاف الفلسطينيين من سكان ونازحين. تقول: ""لقد أتعبتنا الحرب، ولا نعلم متى تنتهي. الناس بتهرب للبحر شوقًا لحياتها الطبيعية".
وتشير تقديرات الأمم المتحدة وهيئات محلية ودولية إلى أن أكثر من 85% من سكان قطاع غزة البالغ تعدادهم زهاء 2.2 مليون نسمة، أُجبروا على النزوح ومغادرة منازلهم ومناطق سكناهم جراء الحرب المستمرة للشهر السابع على التوالي، ويقيم غالبيتهم في خيامٍ لا تقيهم حرب الصيف ولا برد الشتاء، أو في مراكز للإيواء.
ويمثل البحر بالنسبة للغزيين في القطاع الساحلي الصغير المتنفس الوحيد، وتقول أم محمد عبدو النازحة مع أطفالها الأربعة من مخيم جباليا إلى حي تل السلطان غربي مدينة رفح: "مش قادرين نقعد بالخيام، وين بدنا نروح؟ ما في غير البحر يهون علينا مصائب الحرب وحرارة الجو".
ولا تخفي الأم الثلاثينية خشيتها من "غدر الاحتلال واستهداف المتنزهين على الشاطئ"، لكنها تستدرك: "الأجواء داخل الخيمة لا تطاق.. حرٌ شديد أصاب الأطفال بحكة الجلد، وتصيبنا نحن الكبار بالكبت والاضطراب والضغط النفسي، وعندما رأيت مشاهد الناس على البحر تشجعت وجئت بأطفالي للتخفيف عنهم".
ما يزيد من قلق أم محمد هي "ردود الفعل الغاضبة التي أثارتها مشاهد الغزيين على شواطئ البحر في أوساط مستويات رسمية وشعبية في دولة الاحتلال الإسرائيلي"، التي وصلت حد مطالبة وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير بحل مجلس الحرب، إذ قال في تدوينة على منصة إكس: "في غزة، صور الآلاف يستجمون على الشاطئ، وفي الشمال رأى حزب الله أن مجلس الحرب لا يرد على إطلاق مئات الصواريخ من إيران على الأراضي الإسرائيلية، فرفع رأسه وقام بخطوة عدوانية ضدنا كلفتنا اليوم جنودًا وجرحى".
وعلق حساب "إسرائيل بالعربية" على منصة "إكس" على مشاهد البحر في غزة بالقول: "المفارقة في هذا المشهد هو شاطئ دير البلح الذي يعج بالغزيين كبارًا وصغارًا، يتمتعون بالبحر ويمارسون مختلف أنواع الفعاليات الرياضية، في وقتٍ لا يزال فيه جيش الدفاع -على حد تعبيره- يدير معارك ضد إرهابيي حماس في غزة".
وسخر إعلاميون ونشطاء على منصات التواصل الاجتماعي في دولة الاحتلال مما وصفوها "مزاعم بنيامين نتنياهو عن النصر المطلق" وأن الجيش يسيطر على قطاع غزة، في الوقت الذي تظهر فيه الصور ومقاطع الفيديو آلاف الغزيين يستمتعون باللهو والسباحة على شواطئ البحر.
وعلق الصحفي الإسرائيلي ألموغ بوكير على مشاهد البحر في قطاع غزة ساخرًا من شعار "النصر المطلق" الذي كرره رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو منذ بداية الحرب، وقال وقد أرفق صورة لمصطافين على شاطئ مدينة دير البلح: "هذه الصورة تجعل جسدي يؤلمني"، مشيرًا إلى أن الصورة تتزامن مع إعلان "شاطئ زيكيم" منطقة عسكرية مغلقة، "ولا يمكننا الاقتراب منه دون مرافقة عسكرية".
ونشرت القناة (12) العبرية الصورة ذاتها معلقة: "رغم الحرب.. شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة يكتظ بالمصطافين". بينما علقت صحيفة "يسرائيل هيوم" على الصورة متسائلة: "هل انتهت الحرب؟ الفلسطينيون في غزة يعودون إلى طبيعتهم!".
في المقابل كانت لهذه المشاهد صدى إيجابيًا لدى الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم، الذين أشادوا بها ورأوا أنها تعكس إرادة الحياة لديهم رغم كل ما يتعرضون له من جرائم قتل وإبادة وتدمير على مدار شهور طويلة من الحرب الإسرائيلية الضارية.
ويختصر الصياد راني الزايغ (43 عامًا) العلاقة التي تربط الغزيين بالبحر بكلمتين: "البحر حياتنا"، ويقول لـ "نوى": "غزة صغيرة ومحاصرة، والبحر بالنسبة لنا هو الرئة التي نتنفس منها، يتوجه إليه الناس للترفيه والسباحة، وهو للصيادين مصدر الرزق الوحيد".
وورث الزايغ مهنة العمل في صيد الأسماك عن والده وأجداده، وحرص على تعليم فنونها لابنه خالد، الذي يرافقه يوميًا في رحلة الصيد وقد توقفت مع اندلاع الحرب على غزة.
يقول الزايغ: "الحرب خربت حياتنا، ودمرت منازلنا وممتلكاتنا، وقد خسرت الشباك ومعدات الصيد في مدينة غزة، قبل أن أضطر إلى النزوح لمدينة رفح (..) لا أجيد إلا مهنة الصيد، وكل يوم أقضي ساعات طويلة على البحر وأشعر بحزن شديد لأنني لا أمتلك أدواتي وشباكي".
أما الطفل أحمد كمال (14 عاماً) فقد وجد في إقبال الناس على البحر، فرصةً للعمل كبائعٍ متجول من أجل المساهمة في إعالة أسرته الفقيرة، التي اضطرت للنزوح من منزلها في مدينة غزة إلى مدينة خان يونس، قبل أن تضطر إلى النزوح مجددًا إلى مدينة رفح، إثر الاجتياح البري الإسرائيلي الواسع لمدينة خان يونس.
ويخبر أحمد "نوى" أنه يتحصل يوميًا على 10 شواكل من بيع المسليات للأطفال، ويعود بها إلى أسرته المقيمة في خيمة على مقربة من البحر، ويتعاون مع باقي أشقائه في توفير مبالغ زهيدة، لشراء الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.