شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الاحد 19 مايو 2024م02:58 بتوقيت القدس

لكل قصاصة رحلة..

أدب السجون.. مخاضٌ عسيرٌ لكلماتٍ خبَّأها "رحم العتمة"

09 اعسطس 2023 - 12:59

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"أيتها النفس التواقة للرحيل على ذلك الجناح الميمون، اسكني، فالدروب دونكِ مسدودة، والجسد تثقله الأغلال، وإذا كنتِ لا تستطيعين، فتحرري، وعيشي الخيال، وتسلي مع الأطياف. أطياف من عشقوا فصدقُوا.. فصدقهم الله".

لم تكتب هذه الكلمات في مكتبٍ مكيف، ولم تُرتّب في ملفٍ له أقسام. هذه الكلمات خرجت إلى النور بعد رحلة مخاضٍ عسيرةٍ في رحم "الظلم". من وسط العتمة في سجون الاحتلال إلى نور الحرية.. هربت لتوثق حالة الأسر كما عاشها الكاتب، وحيدًا، لا يسمع في الانفرادي إلا صوت قلبه ولا يرى إلا ظلامًا ورطوبة وسوادًا. هذه الكلمات كُتبت ضمن رواية "على جناح الدم" بقلم الأسير -المحرر حاليًا- شعبان حسونة.

بدأت الحكاية بتجميع الأفكار، ثم تهريب الأقلام والورق، والخوض في تفاصيلٍ تضغط على الأعصاب وتسحق للحظاتٍ بعضًا من أمل. كُتبت خلسةً عن عيون السجان الإسرائيلي، وخرجت إلى النور داخل كبسولات ورقية، عبر أمعاء أحد الأسرى الذين تحرروا آنذاك.

نعم.. "الكبسولة" كانت أشهر الطرق لتهريب "الأدب" من سجون الظلم الإسرائيلية، وبدأت مطلع التسعينات، عندما حظرت إدارة السجون دخول الأوراق والكراسات والأقلام للتدوين عليها إلى الأسرى داخل سجونهم، "فكانت الكتابة تتم بالخفاء عبر قصاصات ورقٍ صغيرةٍ شفافةٍ متراصّة الحروف، تُلف على شكل كبسولة دواء، وتنقل عبر أمعاء الأسير المحرر؛ لتتنفس الحرية سرًا ورغم أنف الاحتلال" يقول شعبان في وصف الرحلة.

يكتب الأسير على ضوء الشمعة في غرفةٍ ظلماء خلف القضبان، تحت ضغطٍ نفسيٍ كبير، ويعيش بين ناري فقدان الخصوصية، والمراقبة الإسرائيلية.

ويضيف: "يكتب الأسير على ضوء الشمعة في غرفةٍ ظلماء خلف القضبان، تحت ضغطٍ نفسيٍ كبير، ويعيش بين ناري فقدان الخصوصية، والمراقبة الإسرائيلية، ناهيكم عن منع أدوات الكتابة، ومصادرة الأفكار وقطع حبالها بسبب التعذيب النفسي والجسدي وظروف السجن القاهرة"، مشيرًا إلى أن الأسير الكاتب بطبعه، يصر على الاستمرار في التدوين للتعبير عن ذاته ومكنوناته، ورصد تفاصيل التجربة بهدف إيصال الرسالة".

الحالة الأدبية التي عاشها شعبان، الذي تحرر في صفقة وفاء الأحرار عام 2011م،  بعد 22 عامًا قضاها داخل سجون الاحتلال، كانت بمثابة تحدٍ للسجان رغم تعرضه لانتهاكاتٍ متنوعة، بدءًا من تعرضه للسحل والضرب، مرورًا بالعزل، وليس انتهاءًا بالقمع والتفتيش. "وبالنسبة للأسير، لكل شيءٍ.. لكل أملٍ ضريبة" يعقب.

كان الأسير الكاتب يلجأ لعدة حيل للحفاظ على أعماله الأدبية بعيدًا عن عيون السجان، أبرزها  حفر عصا المكنسة الخشبية بالمعلقة وتخبئة قصاصات الورق الأدبية داخلها، وأحيانًا كان يلجأ لتهريب أعماله الأدبية بتغليفها في حبات الشوكولاته أثناء زيارات الأهالي في فترة الأعياد.

 تنتمي أعمال الأسير شعبان حسونة للمدرسة الواقعية،  فالشخوص والأبطال وفق ما أدلى وهميّين في الروايات لكنها تعبر عن الواقع، أشهرها ( على جناح الدم، وظل الغيمة السوداء، والهوية والأرض).

ويعرف أدب السجون على  أنه أصدق أنواع الأعمال الأدبية التي يكتبها الأسير داخل المعتقلات،  للتعبير عن عواطفه وحالته الشعورية داخل السجن، بطريقة سردية، نثرية، شعرية،  يتم طباعتها خارج أسوار السجن،  وتعدُّ الحالة الفلسطينية جزء لا يتجزأ من هذا الأدب.

العديد من الأسرى نجحوا في تجسيد قصصهم ووصف تفاصيل حياتهم اليومية، وظروف اعتقالهم، ومعاناتهم، عبر الكلمات التي كتبوها خلف ستائر العتمة الإسرائيلية.

لا يشكل حسونة حالة فردية لأدب السجون؛ فهناك العديد من الأسرى الذين نجحوا في تجسيد قصصهم ووصف تفاصيل حياتهم اليومية، وظروف اعتقالهم، ومعاناتهم، عبر الكلمات التي كتبوها، بتحدٍ وإصرار، خلف ستائر العتمة الإسرائيلية، إذ ينقل الأسير المحرر وليد الهودلي من رام الله هو الآخر تجربته في تحويل العزلة والأوجاع، لواحةٍ من الأدب، فكتب العديد من المؤلفات الأدبية في وقتٍ كانت فيه الورقة والقلم بعيدا المنال، مما دفعه للاستعانة بأوراق علب السجائر، التي كتب عليها أفكاره بخطٍ رفيعٍ جدًا ومتلاصق، وفق شرحه.

يصف تجربته طوال 14 سنة قضاها متنقلًا بين سجون الاحتلال الإسرائيلي: "رغم ظروف السجن القاسية قررت قلب المعادلة، فقتلت الزمن بدلًا من أن يقتلني بالكتابة الأدبية. كانت بالنسبة لي ضرورة ملحة كأحد أساليب الثورة الفلسطينية المستمرة، وهذا ما يميز أدب السجون عن غيره، إذ يشعر الكاتب الأسير خلال مرحلة الإنتاج بكل معاني الحرية رغم أنه مقيد".

 هنا ينوه إلى أن الإبداع الكتابي لا يولد  في أجواءٍ مريحة، فالأسير لا يكتب وهو يحتسي القهوة مثلًا، ولا وهو ينظر إلى شاطىء البحر، أو على طاولةٍ في غرفة بيته، بل داخل بيئةٍ خصبةٍ من التوتر والقلق، في ظل سيطرة إدارة السجون، وتفتيش الجنود المستمر، "حتى أن الأمر يصل بهم أحيانًا إلى ترك الأسير بالملابس الداخلية كنوعٍ من الضغط، ومصادرة كتبه، وحبسه في الانفرادي في حال وُجدت بحوزته أعمال أدبية، لا سيما لو كانت ذات طابعٍ نضالي.

يمتلك الهودلي مجموعات أدبية متنوعة أُنجزت في الأسر، تشمل القصة القصيرة، ومجموعات قصصية عن الأسرى، وروايات أشهرها رواية "ستائر العتمة" عن حكايا السجن والسجان، التي لاقت رواجًا وانتشارًا كبيرين خارج أسوار السجن، وتم تحويلها لفيلم سينمائي. إضافة لمجموعة من الأبحاث الدراسية التي يستعين بها الباحثون والدارسون.

ويعقب الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول متحدثًا عن أهمية أدب السجون في كونه أحد أساليب النضال بالقلم والكراسة، بالقول: "يمكن تصنيفه كحالة إبداعية تؤثر على الأسير، فتعطيه مساحةً من الحرية للتعبير عن ذاته؛ ليروي قصصه التي يعيشها هو والأسرى من حوله داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى دورها في تعزيز القيم الوطنية المجتمعية".

وبين أن أدب السجون يشكل ظاهرة أدبية داخل الكثير من المعتقلات، "لكنه بالنسبة للحالة الفلسطينية، ذو أهمية كبيرة، للتذكير بإنجازات الأسرى، ومقاومتهم لكافة المعيقات التي يتعرضون لها" يستدرك، مؤكدًا أن خصوصية أدب السجون، تظهر عند تحويل الكثير من الروايات إلى أفلام سينمائية، تجسد حالة الأسر، وحكايا الظلم، وتفضح بطش السجان. 

صــــــــــورة