شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الثلاثاء 19 مارس 2024م05:28 بتوقيت القدس

زمن غسان كنفاني ثقيل الوقع متوحش الخطى في رواية رجال في الشمس

04 اعسطس 2022 - 10:12
بديعة النعيمي

يعتبر الزمن في العمل الروائي بنية أساسية حيث لا يوجد عمل روائي لا يرتبط بالزمن، وهو داخل النص يعادل زمنين الأول زمن القصة وهو زمن الأحداث والوقائع مرتبة ومتتالية وفق شكلها المنطقي لا كما يراه السارد، إنما كما يراه التسلسل المنطقي الحقيقي للتاريخ وهو في رواية رجال في الشمس تاريخ ما بعد النكبة وما رافقه من تغيرات حياتية ونفسية ارتبطت بالفلسطيني المهجر خارج أرضه.

 أما الزمن الثاني فهو زمن السرد وهو الزمن الذي يتمثل بوعي الشخصيات وحركة الأحداث وتطورها كما يتمثل بالسرد الذي يجسد تلك الأحداث التي تتأرجح ما بين أحداث الماضي (الاسترجاع)، والحاضر، والمستقبل (الاستشراف).

 وينبثق الزمن الذي كان له أهمية كبيرة في بناء شخصية الأبطال وتأثيره في حياتها في رواية رجال في الشمس من الواقع الذي عايشه  غسان كنفاني والذاكرة التي أخضعها للكثير من الاسترجاعات التي شكلت الجمالية الزمنية السردية، حيث يعتبر الاسترجاع ذاكرة النص وهو من أكثر التقنيات تجليا وأهمية في رواية رجال في الشمس، وتأتي أهميته في كونه تقنية تتمحور حول تجربة الذات لدى أبطال الرواية، بالإضافة إلى استخدام الكاتب لبعض الاستشرافات القليلة، والتي لن نخوض فيها وهي تقنية تستخدم لتمثيل الأحداث المتوقع حدوثها في المستقبل، ذلك لأن مستقبل أبطالنا مستقبل مجهول لأنه يسير داخل خزان في صحراء لاهبة في شهر آب. لكننا نستطيع القول بأنها مع قلتها إلا أنها شكلت في النهاية مع تلك الاسترجاعات البناء الفني المتقن لهذا العمل الإبداعي.

يبدأ غسان روايته بمشهد استرجاعي حين استلقى أحد شخصياته ويدعى أبو قيس هناك على أرضه في فلسطين، ليقدم لنا بعضا من ماضي هذه الشخصية قبل 1948 وارتباطه بأرضه ص13 (حين قال لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات).

كما استرجع بعض الشخصيات التي عايشها أبو قيس مثل شخصية الأستاذ سليم الذي كان يجيد إطلاق الرصاص، حيث يذكر السارد على لسان أبي قيس، حيث مات قبل سقوط القرية بليلة واحدة ص16 (لا شك أنك ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود).

وإلى أسعد الذي استرجع ماضيه من خلال الخمسين دينارا التي كانت ثمن زواجه من ابنة عمه عند عودته من  الكويت بالكثير منها ص31 (سأعطيك الخمسين دينارا التي طلبتها وعليك أن تعرف أنها جنى عمر..) وفي نفس الصفحة يعلل العم سبب إعطائه تلك النقود (إنني أريدك أن تبدأ.. حتى يصير بوسعك أن تتزوج ندى).

أما مروان بطل الخزان الذي لم يُدق، فقد استرجع ماضيه من خلال رسالته التي كتبها لأمه وهو مستلق على سرير كان خادم الفندق قد رفعه على السطح، بسبب الحرارة والرطوبة. فوصف أباه بالكلب المنحط لأنه طلق أمه وتركها تعاني الحاجة مع أخوته الأربعة وسعى خلف شفيقة التي فقدت رجلها بالكامل أثناء قصف يافا، فاستطاعت امتلاك بيت اسمنتي في طرف البلد وخارج المخيم الذي أراد الأب أن يتخلص من حياته القاسية.. ففي ص41 (هل بوسع والده أن يغفر لنفسه تلك الجريمة؟ أن يترك أربعة أطفال. أن يطلقك أنت بلا سبب؟).


أما أبا الخيزران فقصته مختلفة مقارنة بقصص أبطال الخزان وماضيهم، فقد كان من بين صفوف الثوار الذين حاربوا من أجل  فلسطين وقد استرجع ماضيه عندما وجه أسعد له السؤال الأصعب في حياته ص62 (قل لي يا أبا الخيزران.. ألم تتزوج أبدا؟).  سؤال أخذه بعيدا، سبر أغوار نفسه، عرى شخصيته التي كانت في البداية شخصية قوية لرجل صاحب مغامرات، فعندما انصب ضوء الشمس بحدة على عينيه تقاطع مباشرة مع ضوء المصباح في وسط غرفة التعذيب ص62 (إلا أنه أحس بألم فظيع يتلولب بين فخذيه...)، وهنا يفاجئنا غسان كنفاني بهذه الشخصية وحقيقتها، فما هي إلا شخصية لرجل خصي.. لعن الوطن الذي من أجله فقد رجولته وحرمه من النوم وجانبه امرأة.

وبذلك استطاع غسان كنفاني في روايته رجال في الشمس من خلال الاسترجاع توضيح بعض الجوانب الغامضة والخافية ومواجهة الذات ووقوفها أمام ضعفها وجها لوجه، كما استطاع بناء شخصيات أبطاله من خلال هذه الاسترجاعات وتسليط الضوء على الأبعاد النفسية التي تعيشها كل شخصية.

أما بالنسبة لزمن الحاضر وهو الأهم في هذه الرواية فقد كان يتعلق بالمدة التي سيقضيها أبطالنا الثلاثة داخل الخزان عند النقطتين الحدوديتين أثناء تهريبهم فيه إلى الكويت ذلك الحلم السراب، فالدقيقة التي تزيد عن الوقت المطلوب فيه صمودهم داخل الخزان تعني الحياة والعمر المتبقي أو الموت، وهنا أود أن أسأل سؤالا لن يجيب عليه إلا غسان كنفاني لو كان حيا وهو: لماذا صور غسان كنفاني مشهد مشاعر أبي الخيزران عند النقطتين الحدوديتين ولم يدير العدسة نحو أبطال الخزان الذين من المفترض أن نعيش معهم تلك اللحظات الصعبة والأخيرة من حياتهم؟ لماذا أهملهم فقام بتوجيه عدسة الكاميرا نحو أبي الخيزران فعشنا معه لحظات القلق والتوتر وخوفه على حياة أبطالنا؟ هل أراد منا التعاطف مع تلك الشخصية التي تمثلت بالخصي والتي كان لها دورا في الدفاع عن فلسطين؟ ماذا أراد من ذلك؟ بل لقد أنهى غسان مسؤولية أبي الخيزران عندما وجه سؤالاً كان عادلاً على لسانه.. لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟

منقول عن بوابة الهدف

كاريكاتـــــير