غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
رحلت مريم أبو دقة كما ترحل القصائد قبل أن تكتمل. تركت "أم غيث" وراءها فراغًا بحجم مدينةٍ تنزف، وحضورًا ممتدًا في الذاكرة كسطرٍ مضيءٍ في كتاب حياة كل من عرفها.
في غزة، التي تختلط فيها رائحة البحر والبارود، كبُرت مريم، وآمنت أن الكاميرا ليست مجرد أداة، بل عينُ حية وشاهدٌ لا يموت على الحقيقة. كانت ابنةً بارة، وزميلة وفية، وأمًا صنعت من الحب صلابةً لا تُكسر.
حين تبرعت بكليتها لوالدها بصمت، لم يكن فعلها سوى جزءٍ من صدقٍ ووفاء. رفضت أن يُذكر هذا في الإعلام، لأنها كانت ترى أن العطاء الحقيقي لا يحتاج إلى تصفيق ولا إلى أضواء.
في كل عدوانٍ كانت مريم تحزم حقيبتها، تعلق الكاميرا على كتفها، وتخرج إلى الشوارع المثقلة بالركام. لم تكن تخشى التهديدات، ولا تقيم وزنًا لتحذيرات الاحتلال، بل رافقت زميلها الشهيد حسن اصليّح حتى اللحظة الأخيرة، لأنهما كانا يؤمنان أن الصورة أقوى من رصاصة، وأن الشهادة على الدم.. أمانة لا يمكن التفريط بها.
لم تكن الصحافة بالنسبة إليها مهنة، بل قدر. كانت تعرف أن العدسة تستطيع أن تفضح العتمة، وأنها حين تلتقط صورة لطفل نائم على أرض المستشفى أو جريح يتشبث بالحياة، فإنها تكتب بيانًا أقوى من كل البيانات السياسية.
إلى جانب شجاعتها، كانت فراشةً خفيفةً تملأ أي مكانٍ تحطُّ فيه رحالها بالضحك. زملاؤها يروون كيف كانت تُلاعب الأطفال وسط القصف، وتزرع ابتسامةً على وجوه الصغار حتى وهي تحمل أثقل هموم العالم.
لكن مريم، إلى جانب شجاعتها، كانت فراشةً خفيفةً تملأ أي مكانٍ تحطُّ فيه رحالها بالضحك. زملاؤها يروون كيف كانت تُلاعب الأطفال وسط القصف، وتزرع ابتسامةً على وجوه الصغار حتى وهي تحمل أثقل هموم العالم.
في صباحٍ ممطر، قادت سيارتها وهي تبتسم، والمذياع يصدح بأغنية "هدي يا بحر هدي"، وإلى جانبها أصدقاؤها من الصحفيين. على هاتفها، كانت صورة ابنها الوحيد "غيث" تراقبها بصمت، وكأنها تذكرها أن هناك قلبًا صغيرًا يتشبث بها مهما ابتعدت.
غيث، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة، كان ظلها ورفيقها في جولات التصوير على الشاطئ. ومع ذلك، اتخذت أصعب قرار في حياتها حين أبعدته إلى الإمارات حفاظًا على حياته تحت إبادةٍ طالت الحجر والشجر والبشر. غادرها غيث لكنه بقي مغروسًا في قلبها.
في ليالي الحرب الطويلة، بقيت مريم مشرفةً على خيمة الصحفيات بخان يونس، تنام أحيانًا في سيارتها الصغيرة، وتشتاق إلى صوت "غيثها" عبر الهاتف، لكنها كانت تعرف أن أمانه أولوية.. أهم بكثير من حنينها. لم تعرف الراحة. بين جلسات التخطيط في الخيمة وبين الركض خلف الأخبار، كانت تردد أمام زملائها: "قد نعود إلى بيوتنا.. أو لا نعود، لكن الأكيد أن علينا أن نروي القصة".
كانت العقل والحب في آنٍ واحد، تؤمن أن مهنة الصحافة ليست مجرد نقل، بل فعل مقاومة، وأن الصحفي قد يصبح القصة التي يرويها يومًا ما.
مع كل خبرٍ عن هدنة، كانت تحلم بلحظةٍ تنتزع فيها الخوذة ودرع الصحافة التي أكل من صحتها حتى شبع! كانت تحلم بأن تتنفّس بعيدًا عن صوت القصف، وبمكالمةٍ خفيفةٍ مع "غيث" تضحك فيها دون خوف.. دون أن يخبرها أنه خائف.. من فقدها.
لم تنجُ مريم لتشهد السلام الذي حلمت به، ولا لتلتقي بغيث من جديد. استشهدت في مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، برفقة أربعة من زملائها في استهدافٍ إسرائيلي أدى إلى استشهاد أكثر من 14 إنسانًا، لتلتحق بقافلة الشهداء الذين كتبوا بالدم معنى أن تكون صحفيًا في غزة.
رحلت مريم أبو دقة. لكنها لم تغب. فالكلمات التي كتبتها بدمها، والوجوه التي وثقتها بعدستها، والأثر الذي تركته في قلوب من عرفوها، كلها تشهد أن من يكتب بالحبر والدم لا يموت.
رحيلها لم يكن مجرد غياب فردي، بل خسارة لمهنة كاملة. فقدت الصحافة الفلسطينية عدسة صادقة، وروحاً إنسانية لا تُعوض. ستبقى صورها شاهدة على المجازر، وستبقى سيرتها رسالة تقول "إن الحقيقة أحيانًا أثمن من الحياة ذاتها".
رحلت مريم أبو دقة. لكنها لم تغب. فالكلمات التي كتبتها بدمها، والوجوه التي وثقتها بعدستها، والأثر الذي تركته في قلوب من عرفوها، كلها تشهد أن من يكتب بالحبر والدم لا يموت. مريم الآن أكبر من الموت، وأوسع من الغياب. سلام لروحك يا مريم، وسلام لصوتك الذي سيظل يردد في غزة: هنا حكايات، هنا حياة، وهنا صحفية لم تعرف إلا أن تكون شاهدة على الحقيقة حتى آخر نفس.