شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 29 مارس 2024م09:24 بتوقيت القدس

المتطوعة الأسترالية جين كالدر.. أيقونة إنسانية عاشقة لفلسطين

04 ديسمبر 2022 - 14:17

خانيونس: 

لم تكن فلسطين بالنسبة للدكتورة جين كالدر جنسية وجواز سفر، فهذه المرأة الأسترالية كانت -بشهادة الكثيرين- فلسطينية الانتماء والإيمان بعدالة القضية، ومن أجلها قطعت آلاف الأميال من موطنها أستراليا إلى لبنان حيث الحرب والموت.

رحلت جين، الدكتورة المختصة بالتربية الرياضية، عن عالمنا الأرضي إلى عالم الآخرة، قبل أيام قليلة، بعد رحلة امتدت لنحو أربعة عقود، تركت خلالها إرثًا إنسانيًا، وبصمة في قلوب وعقول كل من اقترب منها وتعامل معها خلال رحلتها التي امتدت من أستراليا إلى لبنان ووصولًا إلى غزة.

بدأت حكاية الدكتورة جين (86 عامًا) مع القضية الفلسطينية، عندما قررت عام 1980 السفر إلى العاصمة اللبنانية بيروت، من أجل العمل الإنساني في خدمة الفلسطينيين، فكانت من الرعيل الأول المؤسس لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ولم تمضِ سوى شهورٍ قليلة على وصولها لبنان حتى وقع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، لتعيش مع اللاجئين الفلسطينيين والشعب اللبناني أبشع المجازر.

وعلى إثر هذا الاجتياح وما نجم عنه من نتائج كارثية، بفعل الجرائم المروعة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، اضطرت قوات منظمة التحرير الفلسطينية إلى مغادرة لبنان، ومعها غادرت الدكتورة جين إلى القاهرة، وليس إلى بلدها أستراليا، وعن هذه المحطة من رحلتها تقول زميلتها ميساء الجملة لـ "نوى": "كانت جين تعشق فلسطين وتريد أن تبقى قريبة من أهلها، وتخصصت في رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة".

في القاهرة أسست الدكتورة جين مركز التأهيل، ويتبع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، ويختص برعاية الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفي المقدمة منهم الأطفال، الذين كانت توليهم اهتمامًا خاصًا، والتصقت بثلاثة منهم إلى حد الأمومة، مثلما توضح زميلتها الجملة التي رافقتها طيلة هذه المسيرة منذ كانت في القاهرة حتى أواخر أيامها.

دلال وبدر ومحمد.. ثلاثة أطفال أيتام، فقدوا أسرهم خلال واحدة من المجازر الدامية الكثيرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وحلفائها، خلال اجتياح لبنان، لم يكونوا بالنسبة للدكتورة جين مجرد أيتام، ولم تكن بالنسبة لهم إنسانة عادية، فقد رفضت مغادرة لبنان من دونهم، وتمسكت بمرافقتهم لها في رحلتها إلى سوريا ومن ثم إلى القاهرة حيث استقرت برفقتهم حتى العودة بهم إلى غزة مع تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، بموجب اتفاقية أوسلو.

كانت عبارة "هؤلاء بشر" تلازم لسان الدكتورة جين، بحسب الجملة، وقالت: "الدكتورة جين أفنت حياتها وهي مؤمنة بحق ذوي الاحتياجات الخاصة، وضرورة دمجهم في المجتمع، وأنهم يمتلكون قدرات كامنة، ويتوجب البحث عنها، ومساعدتهم على إظهار قدراتهم ومواهبهم".

لم تتزوج الدكتورة جين، ولم تخض تجربة الإنجاب والأمومة، لكنها وفقًا لوصف الجملة: "كانت أماً رائعة وحنونة بالنسبة لأعداد كبيرة من الأطفال الذين صادفتهم في مسيرتها الإنسانية الحافلة".

لا يوجد أفضل من دلال لتؤكد هذه المعاني النبيلة التي كانت تختزنها الدكتورة جين، فقد كانت بالنسبة لها الأم بكل ما تحمله الكلمة من عاطفة، وشاركتها تفاصيل كثيرة ويومية منذ أن احتضنتها طفلة بعمر الخامسة بعد فقدان أسرتها في لبنان، وتقول دلال التاجي لـ "نوى": "كانت أمي التي لم تبخل علينا (مع بدر ومحمد) بالتربية والعناية والاهتمام، وسهر الليالي من أجل راحتنا".

كانت دلال طفلة كفيفة عندما تكفلت الدكتورة جين باحتضانها ورعايتها، رفقة بدر ويعاني من ضمور في العقل ومحمد ويعاني من شلل رباعي وتأخر عقلي، وتقول دول إنها بدأت منذ اللحظة الأولى التي فارقت فيها جين الحياة تشعر بفراغ كبير، ولا تتصور حياتها من دونها، وكالت الكثير من الصفات الجميلة لها: "كانت هادئة جداً، مرحة، مبتسمة، وتعطي بلا حدود".

بعد 10 سنوات قضوها مهاً في القاهرة، وفي العام 1995 قررت الدكتورة جين الانتقال بالأيتام الثلاثة بهم إلى غزة، حيث أقامت برفقتهم في منزل بالإيجار في حي الأمل بمدينة غزة، وقد اختارته ليكون قريباً من مقر جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حيث كانت من الرعيل الأول المؤسس للجمعية.

عاش الأطفال الثلاثة، وترعرعوا في كنف الدكتورة جين، التي ساعدت دلال على نيل الشهادة الجامعية في اللغة الانجليزية وشهادة الماجستير في العلوم الإنسانية، وزوجت بدر، فيما محمد فارق الحياة عام 2008.

لم تبخل الدكتورة جين على الأيتام الثلاثة بمالها أو جهدها، وبحسب دلال فقد ساعدتهم لامتلاك منزل، يقيم بدر مع زوجته في شقة، فيما كانت تقيم هي والدكتورة جين في شقة منفصلة داخل المنزل نفسه.

27 عامًا قضتها الدكتورة جين في غزة، تشارك أهلها أفراحهم وأحزانهم، وأسست خلالها كلية تنمية القدرات الجامعية داخل جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وترأستها، وركزت اهتمامها على دمج الأطفال الأصحاء مع ذوي الاحتياجات الخاصة في بعض الفصول المدرسية، لتنشئة أطفال متقبلين لبعضهم البعض.

وفي هذه الكلية تعمل دلال محاضرة، فضلًا عن توليها منصب مديرة التعليم المستمر في جمعية الهلال، مستفيدة من تعليمها العالي وتراكم الخبرات التي اكتسبتها من الدكتورة جين.

عاشت الدكتورة جين مسيحية كاثوليكية، غير أنها حافظت لدلال وبدر ومحمد على ديانتهم الإسلامية، وكانت تتابع معهم أداء صلواتهم وعباداتهم وتصوم معهم شهر رمضان المبارك، وتقول دلال: "كانت تحترم ديننا، وعملت طوال السنوات على تعزيز هويتنا الإسلامية، وشجعتنا على الصلاة والصوم والأخلاق الحسنة".

وبعد هذه المسيرة الإنسانية الزاخرة بمواقف لا تنسى، وطريق طويل قطعته الدكتورة جين من أستراليا إلى لبنان، فسوريا ومنها إلى القاهرة ثم إلى غزة، التي فارقت بها الحياة بعد عامين من معاناتها من سرطان القولون، وتقول دلال: "الاحتلال يعرف الدكتورة جين جيداً، ولم ينس انتمائها الإنساني لفلسطين ودعمها لحقوقهم، فعاقبها بمنعها من السفر لتلقي العلاج".

وبحسب دلال فإن سلطات الاحتلال الإسرائيلي رفضت منح الدكتورة جين تصريح مرور لمعبر بيت حانون شمال قطاع غزة، من أجل الوصول إلى مستشفى يتوفر بها العلاج، في ظل عدم توفر العلاج في مستشفيات غزة.

رحلت "أيقونة الإنسانية" كما وصفتها أوساط فلسطينية رسمية وشعبية، من دون أن يهتز إيمانها بعدالة القضية التي آمنت بها، وبصوابية الطريق الذي سلكته قبل أربعة عقود، لتدفن في الأرض التي ظلت تدافع عن أصحابها الأصليين وحقهم في حياة أفضل بدون احتلال.

 

كاريكاتـــــير