شبكة نوى، فلسطينيات
gaza2023
اليوم الجمعة 29 مارس 2024م08:21 بتوقيت القدس

عطاف التي في غرفة التحرير

09 ديسمبر 2019 - 07:12

"مرحبا صالح، الي كتبته كثير مؤثر. إلى درجة أني بكيت وقمت بعمل فحص سرطان الثدي حتى لا يضطر ابني ذات يوم أن يحمل مثلك ومثل إخوتك جزءًا مني ويذهب لفحصه". هكذا قالت لي عطاف يوسف محررة مُلحق صوت النساء ذات سنة، مشجعة وداعمة لي في سنوات كتابتي الأولى قبل سنوات طويلة.

طبعًا طبقة صوت عطاف الصادقة على الهاتف الأرضي آنذاك، لا يمكن تشكيلها لا بالنحو ولا حتى بالموسيقى.

"ما كتبته عن مرض أُمك يا صالح أقوى من كل الإعلانات والدعايات والمشاريع والأموال التي تصرف على كل يقال عن فحص سرطان الثدي".

بهذا الدعم لي ولزملاء آخرين في الكتابة كانت تدير الراحلة الكبيرة عطاف يوسف غرفة أخبار مُلحق صوت النساء، وهكذا كانت تجندنا للكتابة دون أن ننتبه إلا مع العمر والمقارنة بين عطاف وآخرين وأخريات.

سياستها التحريرية لا تحتاج لبكالوريوس صحافة وإعلام، بل إلى ما حملته معها من العمل الفدائي ومن زنازين الاحتلال عام 1979 إلى صفقة التحرير عام 1985، إلى الجزائر وعمان وبيروت، ثم استشهاد الزوج الأسير المحرر، إلى تربية الابنين اليتيمين، وأخيرا العودة من المنفى وبناء البيت هنا في قرية الجانية غرب رام الله.

كنت أنا وأمل جمعة وزياد خداش ولبنى الأشقر نتسلل إلى غرفة عطاف ونناقش النسوية الفلسطينية بشكل متنمر وثوري وكثير من الانفعالات، بينما تنتظر عطاف انتهاء انفجاراتنا لتدخل من زاويةٍ فكريةٍ هادئةٍ وإنسانية ومحليةٍ تشبه الناس هنا، ويكون الزرع الحقيقي للفكرة.

"كنت أرى فيها مزارعة ثائرة بهدوء ونسوية بدوافع إنسانية، وليست مثلنا مخلوطة بأفكار الآخرين وقراءاتٍ ليست لها" هكذا قال لي زياد قبل قليل على الهاتف.

هذه هي عطاف التي كانت في غرفة تحرير صوت النساء، جاءت إلى المدينة بنتًا فلاحة وصارت فدائية وأسيرة وكاتبة وصحافية ومحررة ومنفية وربة أسرة وأمًا وزارعة ورد، مثل كل اليساريين في لحظات تأملهم.

يأتي الصحافيون الكبار أو المناضلون من أحزاب أو أيدولوجياتٍ خلاصيةٍ كبرى، لكن عطاف جاءت من أكثر من فكرة، من مجموعةٍ شيوعيةٍ في معهد صغير في رام الله، أعجبتها الشيوعية ولكن لم تعجبها الممارسة الثورية في الحزب، فدخلت فتح لأشهر لأنها تريد أن تصبح فدائية مسلحة، وبعد محاولة زرع العبوة في القدس والأسر صارت رفيقة في الجبهة الديمقراطية في السجن، بحثًا عن فكر اجتماعي تحولاتي وممارسة مقنعة للنضال، إلى أن صارت عطاف التي عرفناها، أختًا ورفيقة وصديقة وزميلة فكرة أو مشروع نقاش أو عنصر تحد لسياسات أو مشاريع ضالة.

عطاف التي أحبت أسيرًا محررًا مصابًا بالسرطان، قال الأطباء عندما قررت الارتباط به إن أمامها عشرة أيام فقط كي تتزوجه، استطاعت أن تناضل مع الراحل خضر تسع سنوات أنجبا خلالها ابنين جميلين. تعبت عطاف في تربيتهما إلى أن كبرا وصارا أجمل الأبناء.

لم تكن مثل صحفيي "الكيبورد" الحزبي والصاخب والمتعجل، كانت تتحمل كل انتماءاتنا السياسية وتدلنا على الموقف الأكثر هدوءًا وثباتًا وتكون سعيدة بنا مهما اختلفت توجهاتنا السياسية.

عطاف يوسف التي رحلت الليلة الماضية كانت بين أجمل مناضلين عرفتهم في رام الله بعد عودة السلطة من الخارج، جمعتهم خيمة الصليب الأحمر في مطار بن غوريون وطائرة تبادل الأسرى المتجهة إلى الجزائر، منهم الفتحاوي الراحل رمضان البطة والصديق محمد البيروتي والأخت حنان امسيح أطال الرب في عمرهما. لقاءاتي معهم كانت انفصالات لحظية جميلة عن واقع بائس وعودة قوية لزمن فلسطيني مليءٍ بالبنات والأولاد الطيبين والمنتجين.

وداعًا عطاف يوسف، ستكونين في مكان تحرسه الكتابة والذاكرة والأصدقاء والزيتون والمكتبات والطريق الذاهب إلى غرب رام الله، إلى قرية الجانية حيث تبقين إلى الأبد.

كاريكاتـــــير