إبادةُ الشُّهود.. نهجٌ "إسرائيلي" للإفلات من العقاب!
تاريخ النشر : 2025-11-09 14:26

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

أثناء العمل على هذه المادة، اعتذر عددٌ من الصحافيين عن إجراء المقابلات للتعقيب على قتل أو إصابة زملاء آخرين؛ لأن المؤسسات التي يعملون لصالحها اتخذت قرارًا بمنعهم من الإدلاء بأي تصريحات، حرصًا على سلامتهم وتفاديًا لأي استهداف أو تحريض محتمل.

"أشعرُ بالخوف والتهديد، فربّما أُصبح الضحية القادمة في أي لحظة"، على هذا النحو، لم يعد الصحفي محمد أبو شحمة، من سكان قطاع غزة، يشعرُ بالأمان على نفسه وأسرته، جرّاء قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي 254 من زملاء وزميلات مهنته، من بينهم الصحفية مريم أبو دقة، التي عرفها عن قرب، وكانت شعلة نشاط، تلتقطُ الصور وتوثّقُ الشهادات بكل مهنية.

محمد الحائز على العديد من الجوائز الصحفية، من بينها جائزة "فرسان النزاهة" التي نظمها الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" في فلسطين عام 2015م، نزح قسرًا عن بيته الذي دمّره جيش الاحتلال بمدينة خانيونس جنوبًا، فكانت تلك "من أكبر الضربات التي عرقلت عمله واستقراره".

يقول محمد: "العمل بات تحديًا، أشعر بالاستنزاف، وأنشغل معظم ساعات يومي بتوفير المأكل والمشرب، كما أفتقد لبيئة عمل مناسبة؛ لأنني مجبر على الابتعاد عن مكان العمل المتاح في مجمع ناصر الطبي فهناك استهدف جيشُ الاحتلال أعز وأكفأ الأصدقاء".

وجرّاء حملات التحريض التي نالت في النهاية من العديد من زملائه كأنس الشريف وحسن اصليّح، اتّخذ محمد قرارًا بالحفاظ على حياته وسلامة أسرته، فبات كما يقول: "يتحدّث عن انتهاكات الاحتلال للقانون الدولي الإنساني بحذر شديد، وحتّى تناوله لتلك القضايا التي تنضوي على شبهات الفساد محليًا في الظواهر التي أفرزتها الحرب، يخضعُ لرقابته الذاتية الصارمة".

يتابع قوله: "عندما كتبت في لحظة ما عن إحدى المُبادِرات وما تجمعُهُ من أموال، تهجّم والدُها عليّ في الشارع! وحفاظًا على سلامتي وسلامة أسرتي، لم أعد أقترب من الكثير من المواضيع، كملف تنسيقات التجار، والمساعدات، وملفات أخرى ذات علاقة بإساءة استخدام المال العام".

وقتل جيش الاحتلال المصورة الصحفية مريم أبو دقة، يوم 25 آب/أغسطس الماضي، باستهداف مباشر أمام عدسات الكاميرات، رفقة ثلاثة آخرين من زملائها هم: محمد سلامة، وحسام المصري، ومعاذ أبو طه، أثناء تغطيتهم لقصف استهدف مبنى الطوارئ بمجمع ناصر، بخانيونس جنوبي قطاع غزة.

من جانبها تأمل الصحفية رشا أبو جلال هي الأخرى أن تتناول الكثير من القضايا، "ليس آخرها غياب الرقابة والإدارة الموحدة لمخيمات النزوح"، لكنها تشعر بالخوف على نفسها وعائلتها، ناهيك عما فرضته الحرب عليها من أعباءٍ يومية مضاعفة للقيام بواجبات رعاية أسرتها وأطفالها مما يجعلها في حالة دائمة من "التشويش" بين العمل والأسرة.

تتحدث رشا بصوت متعب بعد رحلة نزوحها لوسط القطاع عقب تدمير منزلها بمدينة غزة: "في وقت سابق عملتُ على توثيق قصص 125 صحافيًا/ة قتلهم جيش الاحتلال. إلى اليوم عندما أراجعُ التفاصيل ذهنيًا أشعر بالفزع، إنها جرائم بكل ما تعني الكلمة من معنى".

وتتابع قولها: "كما يشعرني الاستهداف المباشر لحياة زملائي بالخوف على حياتي، يشعرني التحريض في الإعلام الإسرائيلي على الصحفيين بذلك، وتشعرني كلُ التفاصيل اليومية التي أرى فيها استهدافًا غير مباشر لجهودنا، بالخوف من أن أتوقف عن العمل فلا تصل الصورة ولا توثّق الحقيقة".

رشا تقضي ساعات من وقتها يوميًا لرعاية أطفالها الخمسة، تغسلُ يدويًا مع شح المياه، وتطهو الطعام فوق موقد النار البدائي، وتمشي نحو أصحاب قصصها الصحفية على الأقدام، فيما ذهنها مشغول بالتفكير بسلامة أسرتها التي بقيت في الخيمة.

بدورها، أكدت نقابة الصحفيين الفلسطينيين، في تقرير صادر عن لجنة الحريات فيها، في أغسطس 2025م، أن الإعلام "الإسرائيلي" مارس تصعيدًا واسعًا في خطاباته تجاه الصحافيين/ات الفلسطينيين/ات والسكان المدنيين في القطاع.

وبحسب التقرير توزعت أساليب التحريض بين وصم الصحافيين بالإرهاب، وتشويه سمعتهم، وشرعنة قتلهم، وغيرها، حتى أن جيش الاحتلال عبر تنسيق مع وسائل الإعلام، لجأ إلى ربط الصحفيين زورًا بفصائل مسلحة، في خطوة لتبرير استهدافهم.

ما الذي ارتكبه الاحتلال بحق الصحافة الفلسطينية؟

من جانبه يؤكد أمين سر نقابة الصحفيين الفلسطينيين الدكتور عاهد فروانة أن "الاحتلال يرتكب اليوم بحق الصحافة الفلسطينية، المذبحة الأكبر على مدار تاريخ الحروب العالمية والإقليمية، ففيما أودت الحرب العالمية الثانية بحياة 60 صحافيًا خلال ست سنوات، قتل الاحتلال منذ بدء حرب الإبادة 254 صحفيًا يشكلون ما نسبته 13% من العدد الإجمالي للصحافيين في القطاع".

"كما أصاب أكثر من 300، منهم من يحتاج للعلاج بالخارج، واعتقل 55 في الضفة والقدس والقطاع، وقتل وأصاب قرابة 600 من عائلاتهم، ودمر أكثر من100 مؤسسة صحفية بشكل كامل"، وفق إحصاءات النقابة حتى لحظة إعداد هذه المادة.

ويرى فروانة أنه "ليس جديدًا أن الاحتلال يسعي جاهدًا لإسكات الصوت كي لا تكون هناك أي ملاحقة أو حساب عما يرتكبه من جرائم، ولذلك لا يكتفي بالاستهداف المباشر، فهناك أشكال مختلفة من الاستهداف غير المباشر كالنزوح القسري والتجويع ومنع إدخال الوقود اللازم للتنقل والحركة بوسائل المواصلات، ومنع إدخال المعدات الجديدة، وقطع خطوط الاتصالات والإنترنت، وغيرها".

ولم يتوقف استهداف الصحفيين حتى بعد إعلان وقف إطلاق النار في تشرين أول/ أكتوبر 2025م، فقد أدان المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية "مدى" استهداف عدد من الصحفيين، أثناء خرق الاتفاق يوم 19 أكتوبر خلال تأدية واجبهم المهني، وسط القطاع، مما أسفر عن مقتل الصحفي أحمد أبو مطير، وإصابة المصور إسماعيل جبر بجراح، ناهيك عن تدمير معدات البث والتصوير.

لا يكتفي الاحتلال بالاستهداف المباشر للصحفيين، فهناك أيضًا النزوح القسري والتجويع ومنع إدخال الوقود اللازم للتنقل، ومنع إدخال المعدات الجديدة، وقطع خطوط الاتصالات والإنترنت".

وبالنظر للعديد من التقارير التي تتحدث عن استخدام الاحتلال لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في ارتكاب مجازر بالقطاع، يتساءل كثيرون عما إذا كان جيش الاحتلال استخدم هذه التكنولوجيا في استهداف الصحفيين وعائلاتهم، بما في ذلك برنامج "لافندر" وبرنامج "أين أبي؟" المصمم لاستهداف الأفراد مع عائلاتهم، كما حدث مع الصحفية سلام ميمة، وغيرها ممن قضوا رفقة علائلاتهم!

أين وصلت جهود ملاحقة الاحتلال على جرائمه؟

ورفع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة، ومؤسسة هند رجب في بروكسل، في أغسطس 2025م، دعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، بشأن استهداف "إسرائيل" الممنهج للصحفيين في القطاع، جاء فيها أن هذا الاستهداف "ليس حوادث معزولة"، "ويتطلب ردًا قانونيًا مباشرًا ومحدد الأهداف".

بالخصوص يقول فروانة: "رفعت النقابة بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحفيين، قبل حرب الإبادة، مجموعة من الشكاوى لمحكمة الجنايات، تتعلق بقتل صحفيين وإصابة آخرين وتدمير مؤسسات صحفية"، مضيفًا: "أما فيما يتعلق بجرائم الإبادة، فقد حصلنا بالفعل على توكيلات من مجموعة من عائلات الصحفيين الشهداء، والمصابين، وجاري العمل بصورة حثيثة لاستيفاء المطلوب للملاحقة القانونية".

"هناك مماطلة في فتح ملفات الشكاوى، ومماطلة في معاقبة من يرتكب الجرائم، ويكمن السبب في هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المجتمع الدولي".

لكن فروانة يرى في الوقت ذاته أن "هناك مماطلة في فتح ملفات هذه الشكاوى، ومماطلة في معاقبة من يرتكب الجرائم، ويكمن السبب "في هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المجتمع الدولي، وما تمارسه من ضغوط على محكمة الجنايات الدولية"، حسب رأيه.

"لن نيأس حتى تتم محاسبة الاحتلال على جرائمه، الأمر الذي من شأنه أن يوفر الحماية لهم، ويجعلهم قادرين على تناول قضايا الفساد وغيرها، بحرية، ونحن في الأمانة العامة لدينا توجه لرفع قضايا لدى الدول التي لديها ولاية قضائية عالمية"، يقول فروانة.

عدَّ مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين (PJPC) مقتل الصحافي صالح الجعفراوي، "جريمة نكراء تضاف إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة، سواء من قبل الاحتلال أو الجهات الموالية له".

بموازاة ذلك، يحذّر فروانة من أن "الاحتلال يكرّس ظروفًا تتيح المجال للانتهاكات الداخلية بحق الصحفيين، مما يقوّض قدرتهم على المعالجة العميقة للقضايا الملحة، مما يشعرهم بالخوف وعدم الراحة، حتى أنهم لا يعرفون من الذي يحاسبهم أو يلاحقهم".

في السياق ذاته، عدَّ مركز حماية الصحفيين الفلسطينيين (PJPC) مقتل الصحافي صالح الجعفراوي، "جريمة نكراء تضاف إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة، سواء من قبل الاحتلال أو الجهات الموالية له"، محذرًا من "تنامي خطر المجموعات المسلحة الموالية له، التي تعمل على بث الرعب في صفوف الإعلاميين ومنعهم من توثيق جرائمه بحق المدنيين".

هل هناك بالفعل فساد يحتاج للتبليغ عنه؟

ويتفق منسق دائرة الرقابة على السياسات والتشريعات في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان حازم هنية مع فروانة، بشأن الانتهاكات الداخلية، مؤكدًا أن الاحتلال يعيق عمل السلطات المحلية وقد استهدف بالفعل كل القطاعات الرسمية، وعرقل قيامها بدورها بما يؤثر على حالة الحقوق في القطاع اليوم".

"ما يوثّقه الصحفيون من جرائم إسرائيلية يتحوّل إلى "قرائن وأدلة" تؤسس لإثبات قناعة لدى الجهات المعنية كمحكمة الجنايات مثلاً، بوجود انتهاكات للقانون الدولي، وبالتالي فتح الباب أمام محاسبة مرتكبيها".

ويعلّق هنية بالقول: "يجب أن نفرّق بين مستويين من الانتهاكات التي تمارس بحق الصحفيين، وتمنعهم من تغطية قضايا الفساد، وتوثيق كل ما يرتكب من جرائم على الأرض في القطاع: الأول: انتهاكات الاحتلال التي وصلت بالفعل لحد القتل المباشر، والثاني: الانتهاكات الداخلية لحقوق الصحفيين مما يهدد أمنهم وسلامهم الشخصي".

أما شبهات الفساد التي تحتاج من الصحفيين تسليط الضوء عليها، فالأولى: تتعلّق بانتهاكات الاحتلال للقانون الدولي كاستهداف الأعيان المدنية، والمدنيين، والثانية: تتعلّق بالظروف التي يصنعها الاحتلال في المجتمع وتصبح تربة خصبة للفساد، كما يجري في قضية التحويلات الطبية، والمساعدات الإغاثية، وغيرها".

ويؤكد هنية أن ما يوثّقه الصحفيون حول ما يرتكبه الاحتلال بشكل مباشر يتحوّل إلى "قرائن وأدلة" تؤسس لإثبات قناعة لدى الجهات المعنية كمحكمة الجنايات مثلاً، بوجود انتهاكات للقانون الدولي، وبالتالي فتح الباب أمام محاسبة مرتكبيها، لكن عندما يُقتل الصحفي تتوقف عملية التوثيق وتتدمر الأدلة وتضيع الشهادات التي تدعم المساءلة.

"عندما يكون هناك احتمال قوي لارتكاب جريمة حرب، يصبح البث المباشر دليلاً حاسمًا".

بدورها صرّحت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحرية الرأي والتعبير إيرين خان، في العام 2024م إنه: "عندما يكون هناك احتمال قوي لارتكاب جريمة حرب، يصبح البث المباشر دليلاً حاسمًا"، وعاودت القول تعقيبًا على قتل جيش الاحتلال مراسلَي قناة الجزيرة أنس الشريف، ومحمد قريقع، وثلاثة آخرين من زملائهما، في أغسطس 2025م، باستهداف مباشر للخيمة التي يتواجدون فيها بمجمع الشفاء الطبي، بمدينة غزة: "إن الجيش الإسرائيلي يسعى لإسكات أي صوت وأي عين تشهد على الفظائع".

كيف فقدت الوكالات العالمية عشرات القصص؟

من جانبه يتحدّث محمد البابا منسق ومشرف فريق التصوير بوكالة الأنباء الفرنسية داخل قطاع غزة، الذي غادر بعد تغطية استمرت سبعة أشهر ونصف، بحثًا عن الأمان له ولأسرته، ويتابع عمله من القاهرة، عن حالة من "الفراغ الذي خلّفته مغادرة عدد كبير من طواقم الجيل الصحفي الأول".

ويوضح: "بعد إجلاء العشرات من الزملاء ذوي الخبرة الطويلة، تفانى الجيل الذي استلم الراية بكل حماسة وقوة، حتى كان الجزء الأكبر ممن فقد حياته منهم، لكننا نفتقد للتغطية التي تعرف كيف يكون التأثير في الرأي العام الدولي. في الحقيقة بعد 23 عامًا من العمل في مجال التصوير الصحفي، لم أجد أبشع ولا أصعب من هذه الحرب، خرجنا مكرهين فلا شبر آمن هناك".

وعن النداء الذي أطلقته الوكالة الفرنسية في 21 يوليو 2025م، وعبّرت فيه عن قلقها على حياة طاقمها الذي يواجه خطر الموت جوعًا وتحت القصف، يقول البابا: "عانى طاقمنا من التجويع والنقص الشديد للوقود اللازم للتنقل، كان متعبًا منهكًا فاقدًا للأمل، لذلك اضطررنا طوال أربعة شهور للاكتفاء بالتركيز على أهم ثلاث قصص يوميًا فقط في شمال ووسط وجنوب القطاع، وفي خضم ذلك فقدنا بلا شك فرصة توثيق عشرات القصص الأخرى المهمة".

ويتذكر البابا ما أسماه "بالجريمة غير المحسوسة" التي ارتكبت بحق التغطية بالتزامن مع إعلان الاحتلال عن عملية عسكرية في مدينة غزة في أغسطس، 2025م: "ناهيك عن منع دخول الطواقم الصحفية الأجنبية، طلبت غالبية وكالات الإعلام من طواقمها المحلية النزوح عن المدينة، مما يعني أن توثيق عشرات الجرائم لم يكن ممكنًا".

وما زال الاحتلال الإسرائيلي منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة يمنع دخول الصحفيين الدوليين للقطاع، رغم العديد من الالتماسات التي تقدمت بها مؤسسات إعلامية محلية ودولية "للمحكمة العليا الإسرائيلية" التي أرجأت جلسات النظر في إمكانية دخول الصحفيين، منذ العام 2024، وحتى 25 أكتوبر 2025، سبع مرات.

ماذا لو كان الإعلام المحلي موجودًا؟

بدوره يفتقد الدكتور رامي الشرافي، مدير إذاعة زمن التي دمّرها جيش الاحتلال في 28 سبتمبر 2025، "الدور الذي كانت تلعبه الإذاعات سواء في إيصال الخبر والمعلومة، أو مناقشة القضايا الهامة، ومساعدة الناس على طرح مشكلاتها، وإيجاد الحلول لها بالتشبيك مع الجهات المسئولة في كافة القطاعات".

ويعقّب الشرافي على حديث هنية حول وجود العديد من القضايا التي تعتريها شبهات فساد وتحتاج للكشف عنها بالقول: "كنا نأمل أن نلعب خلال هذه الحرب الشرسة دورًا في إيصال صوت الناس ومساعدتهم على نيل حقوقهم بدون محاباة ولا محسوبيات ولا أي شبهات، لقد كان لنا تجربة فريدة في الربط بين الناس والجهات الرسمية والقطاع الأهلي خلال جائحة كورونا".

"إن ما جرى خلال هذه الحرب على مدار أكثر من 700 يوم، أفرز سلوكيات وفئات دخيلة على ثقافة الشعب الفلسطيني، رأينا قُطّاع الطرق، وسارقي المساعدات، ولو أن الإعلام المحلي موجود لتمكّنا من ملاحقة وفضح كل من يمارس هذه السلوكيات، كما لا يجب أن ننسى أن الصراع مع المحتل صراع على الرواية، وأن صاحب الحق دائمًا قوي، ولذلك يريد الاحتلال أن يخفي الأدلة على جرائمه، ليفلت من العقاب"، على حد تعبيره.

وأدانت منظمة الشفافية الدولية_ فلسطين، مؤخرًا، بشدة الجرائم المستمرة التي يرتكبها الاحتلال باستهداف الصحفيين "الذين يلعبون دورًا محوريًا في كشف الفساد، وإعداد التقارير الاستقصائية، وتوثيق جرائم الاحتلال"، وعلى اعتبار أن "حماية الصحفيين ليست خيارًا، بل ضرورة لضمان الحقوق الإنسانية العالمية، والتنمية المستدامة، والسلام، والأمن" طالبت المجتمع الدولي بحمايتهم، وإنهاء إزدواجيته في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.

كيف يفلت منتهكو القانون من العقاب؟

وعقب إعلان وقف إطلاق النار في أكتوبر 2025، دعت العديد من المؤسسات المحلية والدولية، من بينها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إلى "تمكين الصحفيين ووسائل الإعلام الدولية من الوصول الحر إلى القطاع، دون قيود؛ لتوثيق الإبادة الجماعية، بما يسهم في إنصاف الضحايا وإرساء أسس العدالة".

حول ذلك يقول رئيس المرصد الدكتور رامي عبده: "منع الطواقم الإعلامية من الوصول إلى غزة يعني استمرار جهود طمس الحقيقة وحجب الأدلة عن الرأي العام العالمي، وإعاقة التوثيق المستقل لجرائم الإبادة التي لحقت بالمدنيين والبنية التحتية".

ويبين عبده أن "الصحفيين مدنيون بموجب القانون الدولي الإنساني، وبالتالي يتمتعون بحماية خاصة أثناء النزاعات المسلحة، إذ تنص اتفاقيات جنيف على وجوب معاملتهم كمدنيين، وعدم استهدافهم إلا إذا شاركوا بشكل مباشر في الأعمال العدائية".

ويستدرك: "مع ذلك، تُظهر الوقائع أن إسرائيل تنتهك هذه الحماية بشكل ممنهج، حيث تستهدفهم بشكل متعمد، مما يُعد خرقًا صارخًا للقانون الدولي، لقد وثّق المرصد الأورومتوسطي استهدافًا متزايدًا للصحفيين الفلسطينيين، بما في ذلك القتل المباشر، والاستهداف المتعمد، والحرمان من الغذاء".

ويقول: "قمع الصحافة المستقلة، والسعي لمنع التوثيق، وطمس الأدلة، كلها سياسة إسرائيلية تهدف إلى تضليل الرأي العام الدولي، وعرقلة تقديم الاحتلال للمحاكمة، وتصعيب مهمة المجتمع الدولي في تقييم الوضع بشكل موضوعي واتخاذ إجراءات فعّالة، مما يُعتبر في النهاية فسادًا في استخدام السلطة".

ويحذّر عبده من أنه "رغم الإدانات الدولية لاستهداف الصحفيين، إلا أن هناك نقصًا في الإجراءات الفعّالة لمحاسبة إسرائيل، إذ تُظهر التقارير أن العديد من القضايا لم يُحقق فيها بشكل جاد، وأن المسؤولين عن هذه الانتهاكات ما زالوا يتمتعون بالإفلات من العقاب".

ما العمل؟ لماذا الحاجة لصحافة عميقة؟

من جهتها تؤمن الإعلامية روان الضامن المديرة العامة لشبكة "أريج" "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية"، أن ما يجري في القطاع هو "إبادة صحفية ترتكبها "إسرائيل" باستهداف الصحفيين والمكاتب والمؤسسات الصحفية والمسح المتعمد للصورة والمعلومة، دون أي مساءلة من المجتمع الدولي".

شبكة "أريج" كانت الشريك العربي الوحيد في "مشروع غزة" الذي هدف لاستقصاء حقيقة استهداف الصحفيين في فلسطين، ضمن تحالف لأكثر من 13 مؤسسة إعلامية، و40 صحفي وصحفية، عمل على نشر 30 تحقيقًا استقصائيًا بخمس لغات، في يوليو 2024، ومارس 2025.

عن ذلك تقول الضامن: "أثبتت تلك التحقيقات بالإثباتات الحقيقية والمعلومات الدقيقة والحالات والصور والصور الجوية والخرائط والشهود وخبراء السلاح أن هناك استهداف للصحفيين في أماكن عملهم وفي مكاتبهم، وحتى أرشيفهم الصحفي، وعائلاتهم".

وردًا على سؤالها عن مدى الحاجة لصحافة عميقة في واقع القطاع اليوم بالنظر لانتهاكات الاحتلال والظروف التي يصنعها، تجيب: "كلما صعبت الظروف كان الضرر أكبر، والصحافة الاستقصائية أداة من أدوات المساءلة، ويمكن أن تستخدم نتائجها في المحاكم والمساءلات القانونية، لذلك تزداد أهميتها اليوم أكثر من أي وقت مضى".

ورغم أنها ترى في التغطية للإبادة "استثناءً، فهذه المرة الأولى التي يعمل فيها الصحفيون وهم يتعرّضون للإبادة إلا أنها تأمل أن يعمل الجميع ليمتلك الصحفيون المهارات والطرق والأدوات التي تقلل من قسوة الرقابة الذاتية، وكل ما يترتب من مخاطر النشر".

وتتابع الضامن: "الصورة تأثرت كثيرًا، ومع ذلك ليس لدينا خيار إلا دعم هؤلاء الأبطال، بكل السبل الممكنة، لكشف هذه الإبادة الجماعية. لقد قدمنا أقصى ما نستطيع وأقل ما يمكن مقارنةً بحجم الاحتياج على الأرض".