غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
تتسلل أنفاس الليل الخانقة إلى ردهة مستشفى ناصر الطبي في خانيونس، جنوبي قطاع غزة، فيما تحاول الممرضة الشابة إنعاش طفل توقف قلبه للمرة الثالثة هذا اليوم.
تتصبب عرقًا وهي تنادي الطبيب المناوب بصوتٍ متعبٍ يشبه نداء النجدة في صحراءٍ مهجورة. حولها تُسمع صفارات الأجهزة الطبية المتوقفة تباعًا بفعل انقطاع التيار الكهربائي، ويعلو أنين الجرحى الممتد في ممرات المستشفى التي لم تعد تتسع للمزيد.
هكذا تبدو الصورة بعد عامين من حربٍ لم تبقِ شيئًا على حاله، حربٍ وضعت المنظومة الصحية في غزة في قلب العاصفة، لتتحول المستشفيات إلى ساحاتٍ للعجز والألم، بعد أن كانت ملاذًا للحياة.
منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع، كان واضحًا أن استهداف المستشفيات لم يكن عشوائيًا، بل خطوة متعمدة لإفراغها من دورها الحيوي. فالقصف والاقتحام والحصار اجتمعت جميعها لتُحدث شللاً شبه تام في المنظومة الصحية، تاركةً القليل من المستشفيات العاملة تصارع ما يفوق طاقتها وسط موجات النزوح القسري. لم يقتصر الأمر على المباني، بل طال الكوادر الطبية نفسها، التي واجهت الترهيب والنزوح والاستهداف المباشر، فانهارت البنية الصحية كليًا، وباتت العمليات الجراحية الطارئة ورعاية مرضى الأمراض المزمنة شبه مستحيلة.
وعلى مدار عامين من الحرب التي دخلت عامها الثالث في السابع أكتوبر/تشرين الأول 2025، اتبعت سلطات الاحتلال سياسةً ممنهجة لتدمير القطاع الصحي، عبر قتل واعتقال الأطباء والممرضين، وقطع الوقود والكهرباء والإمدادات الطبية، وفرض حصار خانق منع دخول الأدوية والمستلزمات الحيوية. وباتت القوافل الإنسانية والطبية رهينة موافقاتٍ عسكريةٍ مشددة. وتشير سلسلة الهجمات المتعمدة إلى هدفٍ واضح: تفكيك القطاع الصحي وتجريده من مقوماته، في سياق استراتيجيةٍ تهدف إلى قتل الحياة في الحاضر والمستقبل، وتحويل غزة إلى منطقةٍ غير صالحةٍ للعيش.
خسائر بشرية ومادية
في ظل هذا الواقع، شهدت المنظومة الصحية انهيارًا كارثيًا. لم يتبق سوى 13 مستشفى من أصل 38 تعمل بظروفٍ بائسة، فيما خرجت البقية عن الخدمة. تجاوزت نسب الإشغال 250%، وتحوّلت الممرات والساحات الخارجية إلى أسرّةٍ إضافيةٍ للجرحى، في مشهدٍ لم تعرفه غزة من قبل. أكثر من 15 ألف جريح ومريض حُرموا من السفر لتلقي العلاج في الخارج، بعدما تحولت المعابر إلى فخٍ مغلقٍ بوجه الأمل.
قُدّرت الخسائر المادية للقطاع الصحي بأكثر من 5 مليارات دولار. خلف هذه الأرقام مأساة تتجسد في وجوه من فقدوا زملاءهم، ومرضى ينتظرون العلاج في غرفٍ بلا دواء.
وتشير بيانات رسمية إلى استشهاد 1670 من الكوادر الطبية منذ بدء الحرب، بين أطباء وممرضين ومسعفين. كما دُمّر أو خرج عن الخدمة 38 مستشفى و96 مركز رعاية صحية و147 سيارة إسعاف و55 مركبة دفاع مدني. قُدّرت الخسائر المادية للقطاع الصحي بأكثر من 5 مليارات دولار. خلف هذه الأرقام مأساة إنسانية تتجسد في وجوه من فقدوا زملاءهم، ومرضى ينتظرون العلاج في غرفٍ بلا دواء.
ومن بين القصص التي هزت الضمائر، استشهاد الطبيب عدنان البرش، أحد أبرز جراحي العظام في غزة، بعد اعتقاله وتعذيبه في سجون الاحتلال. كما يواجه مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية ظروفًا قاسية في الأسر، بحسب ما أكدت محاميته غيداء قاسم، التي قالت "إنه فقد الكثير من وزنه ويُحرم من أبسط مقومات الحياة".
ولم يتوقف الاستهداف عند هذا الحد، إذ نفذت وحدة خاصة إسرائيلية عملية تسلل قرب مستشفى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في المواصي، اختطفت خلالها مدير عام المستشفيات الميدانية الدكتور مروان الهمص بعد إطلاق النار عليه، ما أدى إلى إصابته في ساقه ومقتل وإصابة آخرين.
لم تسلم سيارات الإسعاف من القصف، وارتُكبت ما عُرف بـ"مجزرة الإسعاف في رفح"، حين قُصفت سيارات الإسعاف أثناء تأديتها لمهامها، وأوقفت وفُتّشت في طريقها لنقل الجرحى، واعتقلت طواقمها.
من بين ضحايا هذه الهجمات المسعف أنيس الدنيا الأسطل الذي اعتُقل خلال مهمة إنسانية رغم التنسيق المسبق. تُبقيه سلطات الاحتلال محتجزًا تحت بند "مقاتل غير شرعي"، شأنه شأن المئات من معتقلي غزة.
أرواح تتأرجح على أسرة الموت
المرضى بأمراض مزمنة دفعوا الثمن الأكبر. فقد أدّى تدمير مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي، المتخصص في علاج الأورام، إلى انقطاع الخدمات عن آلاف مرضى السرطان، فيما خرج مستشفى غزة الأوروبي لاحقًا عن الخدمة بعد قصفه المباشر، ليُترك المرضى بلا وجهة.
تقول هديل شحادة (35 عامًا)، وهي مريضة بسرطان الثدي: "استهداف مستشفيات علاج الأورام يعني حكمًا بالإعدام على آلاف المرضى". هديل واحدة من نحو عشرة آلاف مريض كانوا يتلقون العلاج قبل أن تنقطع بهم السبل. تمتلك تحويلة طبية للسفر منذ أكثر من عام، لكنها لم تتمكن من مغادرة القطاع بسبب إغلاق معبر رفح وتقييد الاحتلال للحالات عبر كرم أبو سالم. "الحرب أشد وقعًا علينا كمرضى، نواجه الموت بأشكالٍ مختلفة"، تقول بصوتٍ متهدج، بينما تتشبث بما تبقى من مسكنات لم تعد تكفي.
حصار يقطع آخر خيوط الحياة
فرض الاحتلال قيودًا خانقة على سفر الجرحى والمرضى، وزادها تشديدًا منذ إغلاق المعابر كافة في مارس/آذار الماضي. معبر رفح، المنفذ الوحيد لغزة نحو العالم، مدمر ومغلق منذ اجتياح رفح في مايو 2024.
"أحتاج ثلاث جلسات غسيل أسبوعيًا، لكنها لم تعد كافية، لقد تقلصت المدة إلى ساعتين بسبب قلة الأجهزة".
المريضة إيمان أحمد (37 عامًا) تعاني من الفشل الكلوي ولم تحصل على فرصة للعلاج رغم تحويلتها الطبية. تقول وهي تقيم بخيمة قرب مستشفى شهداء الأقصى: "أحتاج ثلاث جلسات غسيل أسبوعيًا، لكنها لم تعد كافية، لقد تقلصت المدة إلى ساعتين بسبب قلة الأجهزة".
ويؤكد المهندس إسماعيل أبو نمر من مجمع ناصر الطبي أن الاحتلال يمنع إدخال الأجهزة وقطع الغيار والمولدات الكهربائية، مما يؤدي إلى خروج الأجهزة المعطلة عن الخدمة دون إمكانية إصلاحها. ومع انهيار الصيانة وغياب البدائل، تتفاقم معاناة آلاف المرضى.
"أكثر من 15 ألف مريض وجريح مسجلون بانتظار السفر، وفقد نحو 600 منهم حياتهم قبل أن يُتاح لهم العلاج".
انخفض وزن إيمان من 65 إلى 50 كيلوجرامًا بسبب سوء التغذية والمجاعة. كانت تأمل أن تُنقل لها كُلْية من شقيقها، لكنها اليوم تخشى الموت أكثر من أي وقتٍ مضى.
بدوره يقول الدكتور أحمد الفرا، مسؤول ملف إجلاء الجرحى والمرضى بوزارة الصحة: "إن أكثر من 15 ألف مريض وجريح مسجلون بانتظار السفر، وفقد نحو 600 منهم حياتهم قبل أن يُتاح لهم العلاج".
وأضاف: "الاحتلال يرتكب جرائم قتلٍ صامتة بحق هؤلاء المرضى"، محذرًا من ارتفاع أعداد الضحايا ما لم تُفتح المعابر.
مجاعة وأطفال يولدون في العدم
نتيجة الحصار والنزوح والمجاعة، انتشرت أمراضٌ خطيرة بين الفئات الأضعف، خاصة الأطفال والنساء. أمراض جلدية، شلل أطفال، شلل رخو، جميعها تتفشى بسبب تلوث المياه وسوء التغذية. وزارة الصحة تؤكد أن 47% من الأدوية الأساسية و65% من المستهلكات الطبية نفدت بالكامل، بينما عطّلت "إسرائيل" دخول التطعيمات لفترات طويلة.
في قسم الحضانة بمستشفى شهداء الأقصى، تجلس أم يحيى القيشاوي (38 عامًا) أمام توأمها "ماجد" و"منير"، أحدهما في حضنها والآخر في الحضانة. أنجبتهما قبل الأوان بسبب سوء تغذيتها.
تقول لـ"نوى": "كانت فرحتي بالحمل لا توصف، لكن الحصار والمجاعة سرقاها. لم أكمل الشهر الثامن، ووضعت توأمي بوزنٍ لا يتجاوز الكيلو والنصف". الأم نفسها تعاني من سوء تغذية يمنعها من الإرضاع، والحليب العلاجي نادر وغالي الثمن.
نحو 50 ألف امرأة حامل في غزة، ثلثهن بحالات عالية الخطورة، فيما يولد 130 طفلًا يوميًا، 27% منهم بعمليات قيصرية، و20% قبل الأوان.
تُقدّر الهيئات الدولية وجود نحو 50 ألف امرأة حامل في غزة، ثلثهن بحالات عالية الخطورة، فيما يولد 130 طفلًا يوميًا، 27% منهم بعمليات قيصرية، و20% قبل الأوان. وتقول الطبيبة شيرين العلوي من مجمع ناصر الطبي إن "من بين كل عشرة مواليد، سبعة يعانون من انخفاض الوزن".
وتوضح أن نقص الحديد وسوء التغذية يؤديان إلى الإرهاق وضعف الطلق واللجوء إلى الولادة القيصرية.
حتى سبتمبر الماضي، وثقت وزارة الصحة استشهاد 447 فلسطينيًا، بينهم 147 طفلًا بسبب الجوع وسوء التغذية.
وتنتشر إصابات متزايدة بمتلازمة الشلل الرخو الحاد (غيلان باريه)، وهو مرض نادر يؤدي إلى ضعف تدريجي في الأطراف قد يصل إلى شلل عضلات التنفس. يشير الدكتور الفرا إلى أن التحاليل المخبرية أظهرت تلوث مياه الشرب بمياه الصرف الصحي كسببٍ رئيسٍ للمرض.
تقول والدة الطفلة لينا (7 أعوام) المصابة بالمرض: "ابنتي فقدت السيطرة على أطرافها، لا أريد أن تبقى على هذه الحال، أرجو أن تنقذوها". لا تجد سوى دعاءٍ صامتٍ في مستشفى يفتقد الأجهزة والعلاج.
في مواجهة الموت
عامان من الحرب كانا كافيين ليحول الاحتلال غزة إلى سجنٍ بلا دواء، ومستشفى مفتوح على المأساة. تحولت ممرات العلاج إلى ممرات وداع، وصارت الكوادر الطبية تواجه الموت بأيديها العارية.
يقول الحقوقي الدكتور صلاح عبد العاطي "إن استهداف المنظومة الصحية يتعارض مع كل الأعراف الإنسانية، فانهيارها يعني حكمًا بالإعدام على عشرات آلاف المرضى والجرحى، وعلى نحو 350 ألف من أصحاب الأمراض المزمنة".
تلك ليست مجرد أرقام، بل أرواحٌ تُطفأ تباعًا في صمتٍ ثقيل. ومع دخول الحرب عامها الثالث، تبقى غزة تنزف بلا مستشفيات، وأطباؤها يواصلون العمل في الظلام، على أملٍ أن يعود الضوء يومًا، ولو في غرفة إنعاشٍ واحدة.