غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
بين خيام النزوح في مخيم المغازي، وسط قطاع غزة، تتهادى الرياح محمّلةً برماد البيوت المهدّمة، وتلوح في الأفق وجوه أنهكها التعب والخسارات. هناك، تبدأ حكاية هدى الخالدي، الشابة الثلاثينية التي قلبت الحرب حياتها رأسًا على عقب.
في صباحٍ باردٍ من صباحات يناير/كانون الثاني 2024م، كانت هدى نائمة في غرفة صغيرة داخل المخيم، تحاول أن تجد في النوم مهربًا مؤقتًا من أوجاع النزوح، حين دوّى فجأةً انفجارٌ هائل. قذيفة إسرائيلية سقطت مباشرة على غرفتها، لتصحو على رائحة الدم يتدفق من جسدها الهزيل؛ بلا قدمٍ ولا ذراع!
"ذراعي قُطعت وقدمي بُترت في نفس اللحظة. شعرتُ أن حياتي انتهت هناك، كنت غارقةً في الدماء، أصرخ ولا أصدق أنني ما زلت أتنفس".
تقول بصوتٍ يختنق بالألم: "ذراعي قُطعت وقدمي بُترت في نفس اللحظة. شعرتُ أن حياتي انتهت هناك، كنت غارقةً في الدماء، أصرخ ولا أصدق أنني ما زلت أتنفس".
خضعت هدى لعدة عمليات جراحية في مستشفى شهداء الأقصى، ومكثت في سرير المرض ثلاثين يومًا. لم يكن ما فقدته في تلك اللحظة أطرافها فقط، بل توازنها النفسي ومعنى حياتها كله.
"زوجي لا يعطيني أي نفقة، وأنا لا أستطيع المطالبة بحقوقي لأن المحاكم في غزة متوقفة. أنا محاصرة من كل الجهات؛ لا عدالة، ولا قانون، ولا أحد يسمعني".
بعد أيام قليلة من إصابتها، جاءت ضربة أخرى أقسى من القذيفة، حين قرر زوجها أن يأخذ منها طفلتها الوحيدة "سما"، البالغة من العمر عامين، بحجة أنها لم تعد قادرة على رعايتها. تقول والدموع تنحدر على وجهها: "أخذ ابنتي مني، قال إنني عاجزة ولا أستطيع أن أهتم بها، سما كانت كل حياتي، كنت أعيش من أجلها، والآن صرت أستيقظ كل يوم ولا أسمع صوتها ولا أشم رائحتها".
إلى جانب حرمانها من ابنتها، حُرمت هدى أيضًا من النفقة. تشرح بمرارة: "زوجي لا يعطيني أي نفقة، وأنا لا أستطيع المطالبة بحقوقي لأن المحاكم في غزة متوقفة عن العمل منذ بداية الحرب. أشعر أنني محاصرة من كل الجهات؛ لا عدالة، ولا قانون، ولا صوت يسمعني".
كرسي مستعار!
في خيمتها التي تعيش فيها وسط عشرات الخيام الأخرى، تبدو معاناة هدى مركّبة؛ لا خصوصية، ولا سرير ثابت، ولا جدران تخبّئ خلفها دموعها. ومع فقدانها أطرافها، لم يعد بمقدورها التحرك إلا عبر كرسي متحرك استعارته من أحد النازحين.
تضيف: "استعرتُ هذا الكرسي لفترة قصيرة وسأضطر لإرجاعه. لا أملك شيئًا خاصًا بي، حتى وسيلة تنقلي مؤقتة".
نظرة المجتمع تزيد جراحها، فهي تشعر أن الآخرين لا يرون فيها سوى امرأة عاجزة. تخبرنا بصوت متهدّج: "الناس ينظرون إليّ بشفقة، وأحيانًا كأنني عبء. لا مساعدات خاصة لذوي الإعاقة تصلني، ولا أحد يمد لي يد العون، أشعر أنني أُعاقب مرتين؛ مرة من القذيفة، ومرة من حرماني أمومتي".
قصة هدى ليست فردية، بل تعكس أزمة عشرات النساء في غزة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية منذ عامين. فالإحصاءات الرسمية تكشف حجم الفاجعة. وفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أكثر من نصف النازحين في القطاع هم من النساء، كثيرات منهن فقدن المعيل أو يعشن ظروفًا غير إنسانية في مراكز الإيواء التي تفتقد الخصوصية والخدمات الأساسية.
"75% من إجمالي الشهداء في قطاع غزة من النساء والأطفال، وهناك أكثر من 60 ألف أرملة جديدة".
وقد بلغ عدد مرضى البتر وإصابات الدماغ والحبل الشوكي خلال الحرب الإسرائيلية على غزة 4800 حالة مسجلة، 23% منهم من النساء، وفق المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. فيما 75% من إجمالي الشهداء في قطاع غزة من النساء والأطفال، وهناك أكثر من 60 ألف أرملة جديدة. هذه الأرقام يصعب حصرها بدقة بسبب استمرار العدوان وتوقف أنظمة التوثيق، وفق وزيرة شؤون المرأة الفلسطينية في الضفة منى الخليلي، التي أكدت أن أوضاع النساء تدهورت بشكل غير مسبوق خلال عامين، وأنهن -في قطاع غزة- يتعرضن لانتهاكات مضاعفة من القصف وفقدان الأمان، إلى غياب العدالة القانونية.
فجوة قانونية
الناشطة النسوية امتياز حسب الله وصفت واقع النساء بغزة بقولها: "الفجوة القانونية اليوم أكبر من أي وقت مضى، النساء يدفعن ثمن الحرب مرتين؛ حين يفقدن بيوتهن وأطفالهن أو أعضاء من أجسادهن، وحين يحرمن من حقوقهن في الحضانة والنفقة بسبب شلل المحاكم".
وأضافت: "الفجوة القانونية انعكست بوضوح على النساء، إذ تُركت المعنَّفات بلا جهة تحميهن، والمطلقات معلقات دون أوراق رسمية، فيما تتعرض الأرامل للابتزاز من أجل البقاء مع أطفالهن أو للحصول على المساعدات".
"أشكال العنف تضاعفت خلال عامين من الحرب. جسديًا وجنسيًا واقتصاديًا داخل مراكز الإيواء المزدحمة، وصولًا إلى ارتفاع معدلات التحرش والقتل على خلفية ما يسمى "قضايا الشرف".
وتابعت: "أشكال العنف تضاعفت وتشعبت خلال عامين من الحرب، ما بين جسدي وجنسي واقتصادي داخل مراكز الإيواء المزدحمة، وصولًا إلى ارتفاع معدلات التحرش والقتل على خلفية ما يسمى "قضايا الشرف"، مشيرةً إلى أن غياب المحاكم أجبر النساء على اللجوء إلى وساطات عشائرية غالبًا ما تنحاز ضدهن وتضغط عليهن للتنازل عن حقوقهن أو القبول بزواج إجباري.
المستشفيات بدورها لم تعد قادرة على استقبال ضحايا العنف، وكثير من الإصابات تُسجل على أنها كدمات بسيطة، ما يضعف فرص محاسبة الجناة، كما تؤكد حسب الله.
"كثيرات يُجبرن على التنازل عن الولاية أو الزواج من أشقاء أزواجهن الشهداء. و"هذا الواقع خلّف آثارًا نفسية قاسية؛ من اكتئاب وعزلة واضطرابات".
وأوضحت أن الأرامل يُشترط عليهن إبراز شهادات وفاة أو طلاق للحصول على المساعدات، بينما يُمنح الأولياء الذكور حق الاستفادة منها، وكثيرات يُجبرن على التنازل عن الولاية أو الزواج من أشقاء أزواجهن الشهداء. وزادت: "هذا الواقع خلّف آثارًا نفسية قاسية؛ من اكتئاب وعزلة واضطرابات، في ظل غياب النفقة والأوراق القانونية".
وأشارت إلى أن الأطفال أيضًا يدفعون ثمن هذا الفراغ القانوني، إذ يُحرمون من الاستقرار والتعليم، ويعلقون في نزاعات حضانة لا تُحسم، مشددةً على أن إنقاذ النساء يتطلب إجراءات عاجلة، أبرزها إعادة تشغيل آليات قضائية ولو متنقلة، واعتماد بدائل للأوراق الرسمية، وإنشاء وحدات مختصة بالعنف ضد النساء، وتقديم دعم نفسي واقتصادي مباشر.
الحوامل والمرضعات
وعلى غرار ذلك، تعيش النساء الحوامل والمرضعات في غزة واقعًا مريرًا. كثيرات أُجهضن على الطرقات أثناء النزوح، وأخريات أنجبن أطفالهن في مدارس مكتظة بلا دواء ولا رعاية. حتى تلك اللحظة التي يفترض أن تكون الأجمل في حياة أي امرأة، لحظة الأمومة، تحوّلت في غزة إلى معركة بقاء، معركة لتأمين حليب الطفل، أو قطعة خبز، أو زاوية آمنة بين جدران تتصدع تحت القصف.
بحسب تقرير "منظمة العفو الدولية" الصادر في 18 أغسطس/آب، فإنه من أصل 747 امرأة حاملًا ومرضعة ممن فحصتهن منظمة إنقاذ الطفل في عياداتها في النصف الأول من يوليو/تموز الماضي، كانت 323 امرأة (43%) تعاني من سوء التغذية.
ووفق العفو الدولية، تحدثت نساء حوامل ومرضعات عن الندرة الشديدة في المستلزمات اللازمة لبقائهن على قيد الحياة، وعن قسوة واقع الحمل والولادة داخل الخيام وتحت لهيب شمس الصيف، وأمام كفاح الحصول على الطعام وحليب الأطفال والمياه النظيفة.
مرام، ابنة الثامنة والعشرين، كانت واحدة منهن. حملت في أحشائها حلمًا صغيرًا كَبُر يومًا بعد يوم، حين اشتدت نيران الحرب واشتعلت السماء بالقذائف. اضطرت عائلتها للنزوح من بيتها في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة سيرًا على الأقدام باتجاه دير البلح وسط القطاع.
المسافة طويلة، الأرض موحلة، والخوف ينهش قلبها على جنينها. مرت الأشهر ثقيلة، بين نزوح متكرر وقصف وسوء تغذية، حتى جاءت ليلة صيف مظلمة في مدرسة مكتظة بالنازحين، حيث جاءها المخاض بلا طبيب ولا سرير، فقط أمهات يلتففن حولها وصرخاتها تختلط بأصوات القصف.
تقول مرام أحمد: "وضعت طفلي بين جدران صف مدرسي تحوّل إلى مأوى، حتى جاء الإسعاف وأخذني إلى مشفى شهداء الأقصى، وبالطريق قطعوا الحبل السري للطفل. كنت مرعوبة من فقدانه، ولكن مع أول صرخة له اطمأن قلبي. أسميته "سمير" على اسم جدّه الذي استشهد في أول أيام الحرب".
تشرح مرام ماذا يعني أن تكوني أمًا في غزة أثناء الحرب: "يعني أن تبدأ رحلة أخرى من الخوف والحرمان". تضيف وهي تضم طفلها: "كل يوم أستيقظ مذعورة من أن يفقد سمير أنفاسه بقذيفة أو صاروخ. كل ما يلزمه كطفل من حليب وبامبرز وملابس نادر، وإن وُجد فبأسعار خيالية. جسدي الضعيف لا يكفي لإرضاعه، فأنا نفسي أعاني من سوء التغذية".
تخاف مرام أن يمرض طفلها، فلا تجد له علاجًا، والوضع الصحي في المشافي متدهور للغاية، فيما تتدهور الرعاية بالصحة الإنجابية. لكنها تقول إن ما يهون عليها قلقها هو سماع صوت ضحكاته ولعبه، وتنتظر بفارغ الصبر خطواته الأولى وسماع كلماته الأولى: "ماما" أو "بابا".
تحذيرات أممية
وقالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في تقريرها الصادر في 16 أغسطس 2025م "إن مليون امرأة وفتاة في قطاع غزة يواجهن "مجاعة جماعية، إضافة إلى العنف والإساءة"، جراء الحصار وحرب الإبادة المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023م.
وأورد تقرير "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" المنشور في 12 من الشهر ذاته أن أطباء غزة وصفوا ما تعيشه النساء بالحالة الكارثية؛ كثيرات خسرن أجنتهن أو واجهن ولادات مبكرة نتيجة الحسرة والخوف، وفي ظل غياب الغذاء والدواء والرعاية الطبية.
وسبق أن حذرت منظمة "اليونيسف" في يناير 2024م من أن الأوضاع غير الإنسانية التي تعيشها النساء الحوامل في غزة تعرض حياتهن وحياة أجنتهن للخطر وتزيد نسبة الإجهاض والولادة المبكرة.
أما "هيومن رايتس ووتش"، فأكدت في تقريرها الصادر في يناير 2025م، أن الرعاية الطارئة للتوليد وحديثي الولادة كانت متوفرة فقط في سبعة من أصل 18 مستشفىً عاملاً جزئيًا في غزة، وأربعة من أصل 11 مستشفى ميدانيًا، ومركز صحي مجتمعي واحد، مقارنة بـ20 مؤسسة كانت تعمل قبل بدء الإبادة.
وأشار التقرير إلى أن معدل الإجهاض التلقائي ارتفع بنسبة 300% منذ أكتوبر 2023م.
واقع مأساوي
الحقوقي سعيد عبد الله بدوره، قال "إن الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ عامين على غزة خلّفت واقعًا إنسانيًا مأساويًا للنساء، انعكس على حياتهن الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وفتح فجوات قانونية جعلتهن أكثر عرضة للعنف والاستغلال".
وأضاف: "الحصار وانقطاع الإمدادات الطبية والغذائية أدى إلى انهيار شبه كامل في خدمات الصحة الإنجابية"، ملفتًا إلى أن الحوامل والمرضعات يواجهن مخاطر عالية تشمل الولادات المبكرة، وفيات الأمهات، وسوء التغذية الذي يؤثر على الأطفال حديثي الولادة.
"انهيار النظام الصحي جعل حتى الولادات الطبيعية أمرًا محفوفًا بالخطر، بينما الحوامل والرضع في دائرة تهديد دائم".
وأوضح أن "انهيار النظام الصحي جعل حتى الولادات الطبيعية أمرًا محفوفًا بالخطر، بينما الحوامل والرضع في دائرة تهديد دائم".
واستطرد بقوله: "إن استشهاد آلاف النساء وإصابة عشرات الآلاف شكّل صدمة إنسانية واجتماعية عميقة"، مؤكدًا أن النساء اللواتي أصبن بإعاقات دائمة يواجهن نقصًا في خدمات التأهيل والأطراف الصناعية والدعم النفسي، مما جعلهن عاجزات عن مواصلة أدوارهن الأسرية والاقتصادية.
وأشار إلى أن الآثار النفسية والاجتماعية لا تقل خطورة، إذ تعاني آلاف النساء من اكتئاب وصدمات طويلة الأمد، فضلًا عن الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإعاقة التي تزيد من عزلتهن، مؤكدًا أن غياب الأزواج بسبب الاستشهاد أو الإصابة أجبر الكثيرات من النساء على أن يصبحن المعيلات الوحيدات، فتولين مسؤوليات اقتصادية جديدة في ظل موارد ضعيفة ودعم محدود.
"تدخل النساء أعمالًا غير رسمية أو خطرة، ويتولين رعاية الأطفال وقيادة الأسر، دون حماية أو فرص اقتصادية كافية، وهذا يحول تلك الأدوار إلى عبء واستنزاف".
وقال: "تدمير المنازل وانهيار شبكات الدعم المحلية دفع الأسر للاعتماد على جهود فردية من النساء أو على مساعدات خارجية متقطعة"، مشددًا على أن ما يجري أعاد تشكيل الأدوار الاجتماعية، حيث تدخل النساء أعمالًا غير رسمية أو خطرة، ويتولين رعاية الأطفال وقيادة الأسر، "لكن من دون حماية أو فرص اقتصادية كافية تتحول هذه الأدوار إلى عبء واستنزاف" يستدرك.
في غزة، لا تنتهي الحرب بانتهاء القصف، بل تبدأ فصولها الصامتة في تفاصيل الحياة اليومية، في عجز النساء عن الوصول إلى احتياجاتٍ أساسية، وفي وجعٍ لا يُرى ولا يُسمع.
وبينما تنشغل العدسات بصور الموت والدخان، تواصل نساء غزة معاركهنّ الخفية بصبرٍ يشبه البطولة، علّ العالم يلتفت يومًا إلى وجعٍ لم يعد يحتمل التجاهل.