"اقتصاد غزّة".. حين دفنَتهُ "إسرائيل" حيًا!
تاريخ النشر : 2025-10-07 10:35

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

تتسلل خيوط الشمس الخافتة من ثقوب خيمةٍ مهترئة في مواصي خانيونس جنوبًا، إلى حيث يجلس الفلسطيني إيهاب أبو طعيمة (54 عامًا) ويسند ظهره إلى عمودٍ خشبي، يحدق في الفراغ كمن يبحث عن ما تبقى من أيامٍ كانت له فيها حياة.

حوله أبناؤه الأربعة يحاولون ترتيب ما يمكن من أغطيةٍ تقيهم برد المساء، فيما عقل الرجل هناك، في شمالي القطاع، حيث ورشته الكبيرة لصيانة المركبات والآليات الثقيلة، و"مخرطته" التي كانت تعيد تشكيل الحديد الخام المستورد لتوريده إلى السوق المحلية بكميات كبيرة جدًا.

"كنت رجل أعمال، وأبنائي يعملون معي في الورشة والمصنع، كنا نمتلك منازل مجهزة بأحدث التصاميم والأجهزة، لكن اليوم بتنا نازحين في خيام لا تصلح لحياة البشر".

يتنهد أبو طعيمة، ويتمتم بحسرة على مسمع أفراد عائلته: "كنت رجل أعمال، وأبنائي يعملون في الورشة والمصنع طوال الوقت، كنا من أصحاب الدخل المرتفع، نمتلك منازل مجهزة بأحدث التصاميم والديكورات والأجهزة، لكن اليوم بتنا نازحين في خيام لا تصلح لحياة البشر".

يحدثنا أبو طعيمة بقهر، كيف أنه ومثله الآلاف من أصحاب المصالح التجارية والمصانع بغزة، أصبحوا اليوم بلا عمل وبلا أي مصدر دخل، بعدما خسروا كل ممتلكاتهم ومقدراتهم إثر حرب الإبادة الإسرائيلية. ويقول لـ"نوى": "خلال الأشهر الأولى للحرب وحينما نزحنا إلى جنوبي القطاع، كنا نمني أنفسنا أن الأيام ستمضي، وسنعيد بناء ما دمره الاحتلال، لكن كلما طال أمد الحرب تقل فرص إعادة البناء والنهوض من جديد؛ لأن الإبادة استنزفتنا ماديًا ونفسيًا وجسديًا".

ويُوضح أن المصنع والورشة هما إرث العائلة، وقد ورثهما عن والده، وكان يعمل بهما برفقة أبنائه الأربعة بجد على مدار أكثر من 30 عامًا لتطويرهما وتوسيع العمل، حتى أصبحوا من المعروفين في مجال عملهم على مستوى قطاع غزة. "لكن في لحظة انتهى كل شيء.. فقدنا المنازل والمصنع والورشة وكل شيء".

وبحسب الرجل، فإن عدد العمال في المنشأتين قبل بدء الإبادة في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، وصل إلى أكثر من 20، وكلهم كانوا أرباب أسر، "وكلهم اليوم باتوا بلا مصدر دخل، ولا يجدون ما يسدون به رمق أسرهم" يعقب.

ما حصل مع أبو طعيمة وأبنائه هو نموذج مصغر لما أصاب العملية الاقتصادية والتجارية في قطاع غزة خلال حرب الإبادة المستمرة منذ عامين، التي تعمدت فيها دولة الاحتلال القضاء على كل ملامح الصناعة والتجارة ضمن خطتها لتدمير اقتصاد القطاع، ومنع إعادة بنائه لسنوات طويلة.

سراب

نفس الظروف يعيشها الفلسطيني عبد القادر المدهون، الذي تكبد خسائر فادحة فاقت المليوني دولار بعدما دمر الجيش الإسرائيلي مصنعه الواقع في شمالي قطاع غزة، الذي كان يعمل فيه نحو 400 عامل وموظف.

يقول المدهون لشبكة نوى: "خسائرنا بسبب حرب الإبادة تفوق الوصف، وما جمعناه في سنوات طويلة صار سرابًا خلال لحظات. سياسة الاحتلال في الإبادة قائمة على تدمير كل ما هو فلسطيني، وكل رمز اقتصادي يسهم في نهوض القطاع أو نموه اقتصاديًا".

ويذكر أن "مصنع الخياطة الذي كان يمتلكه كان يزود السوق المحلية بأصناف وأشكال كثيرة من الألبسة، كما أن بعض الأصناف من إنتاجهم كان يتم تصديرها إلى الخارج وقد كانت تنافس في بعض الأسواق الخارجية بقوة لجودة المنتج ومناسبة سعره".

ويلفت المدهون إلى أن "إسرائيل"، وبعد عامين على حرب الإبادة نجحت في تدمير اقتصاد غزة وتدمير الصناعة والتجارة بشكل كبير، وبسبب ما ارتكبته سيحتاج القطاع لسنوات طويلة حتى يتعافى مجددًا، وتعود فيه عجلة الاقتصاد والإنتاج للدوران من جديد".

انهيار تام

من جهته يقول رئيس غرفة التجارة والصناعة بمدينة غزة عائد أبو رمضان: إن "حرب الإبادة أدت إلى انهيار المنظومة الاقتصادية بشكل كامل في قطاع غزة، وتردي الحالة الاقتصادية للمواطنين، لا سيما خلال الأوقات التي ارتفعت فيها أسعار السلع إلى نحو 527 بالمئة عن سعرها الطبيعي".

ولفت إلى أن "قطاع غزة يعيش مع مرور عامين على الحرب واقعًا اقتصاديًا وإنسانيًا كارثيًا، خصوصًا في ظل تدمير المصانع والشركات وإغلاق المعابر والحصار المتواصل وحرمان المواطنين من دخول آلاف السلع الأساسية"، موضحًا أن "حرب الإبادة أدت إلى شلل شبه تام للحركة الاقتصادية، وتوقف عمليات الاستيراد والتصدير، وانهيار سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل غير مسبوق، في وقت يعاني فيه المواطنون من ظروف معيشية بالغة القسوة وانعدام تام للقدرة الشرائية".

وبحسب أبو رمضان فإن "دولة الاحتلال على مدار عامين، دمرت معظم مصانع وشركات قطاع غزة وفرضت حصارًا مشددًا ما أدى إلى منع إدخال المواد الخام والوقود ومستلزمات الإنتاج، إلى جانب منع الوصول إلى الأراضي الزراعية وتعطيل أنشطة الصيد".

"ارتفعت معدلات البطالة إلى أكثر من 85%، فيما تجاوزت معدلات الفقر 90%، وسط غياب كامل لأي مصدر دخل يضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة".

وأكد أن "هذا الشلل التام أصاب القطاعات الإنتاجية والتجارية كافة، وأدى إلى إغلاق مئات المصانع والمزارع والمنشآت، وتسريح عشرات الآلاف من العمال".

وعطفًا على ذلك يزيد: "ارتفعت معدلات البطالة إلى أكثر من 85%، فيما تجاوزت معدلات الفقر 90%، وسط غياب كامل لأي مصدر دخل يضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة"، مشيرًا إلى أن بدء تعافي اقتصاد قطاع غزة يبدأ بتسهيل دخول المواد الخام والمستلزمات الصناعية والطبية والوقود ومستلزمات الطاقة الشمسية، ومستلزمات معالجة وتوزيع مياه الشرب، إلى جانب الآليات ومعدات ومستلزمات البناء والإيواء.

4 مليارات دولار

وبحسب مصدر في وزارة الاقتصاد بقطاع غزة، رفض التصريح باسمه نظرًا للظروف الأمنية، فإنه وخلال حرب الإبادة "تعرض قطاع الصناعة لتدميرٍ واسع باستهداف المصانع والمؤسسات الصناعية المختلفة"، مقدرًا الخسائر الأولية التي مُني بها اقتصاد القطاع بنحو 4 مليارات دولار.

وبخصوص قطاع التجارة، يقول المسؤول إنه "لم يسلم أيضًا خلال عامين من الإبادة من التدمير والتخريب الإسرائيلي"، موضحًا أن قطاع التجارة يشمل الأسواق والمحلات التجارية والمطاعم والفنادق والمخازن التجارية وغيرها من المنشآت، وتقدر خسائره الأولية بنحو 4 مليارات و300 مليون دولار.

ويُبين المسؤول الحكومي أنه خلال العامين الماضيين، "دمر الاحتلال بشكل كلي وبليغ 92 بالمئة من إجمالي 178 ألف دونم من الأراضي الزراعية، و1218 بئرًا زراعية، ما أدى لتعطيل معظم العملية الزراعية المحلية في قطاع غزة".

وبخصوص الإنتاج الحيواني والنباتي والثروة السمكية، ذكر أن "الاحتلال دمر 665 مزرعة لتربية الأبقار والأغنام والدواجن، مما فاقم من وقع المجاعة وسوء التغذية".

وتقدر خسائر القطاع الزراعي بنحو مليارين و800 ألف دولار، وفقًا للمسؤول الحكومي.
أما فيما يتعلق بالقطاع السياحي الذي يضم المتنزهات والفنادق والمدن الترفيهية والملاهي، وكل ما تحتويه من أجهزة ومعدات ومقتنيات وتجهيزات، فتُقدر خسائره بنحو ملياري دولار، ناجمة عن تدمير كلي وجزئي وبليغ للمباني والمنشآت والمقدرات، بحسب ما قال المسؤول خلال حديثه.

في خيمة إيهاب، كما في خيام آلاف العائلات الغزية، لا يُقاس الخراب بعدد المصانع المهدّمة أو المليارات المفقودة، بل بغياب الإحساس بالأمان وبالعجز عن الحلم من جديد. عامان من الإبادة لم يمحيا البنية التحتية فحسب، بل مزّقا نسيج الحياة الاقتصادية والاجتماعية، تاركين خلفهما سؤالًا مفتوحًا: من سيعيد لغزة نبضها، ولأهلها القدرة على الوقوف من بين ركامهم؟