غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
أنجز هذا التقرير ضمن مشاريع تخرج "دبلوم أريج لتدقيق المعلومات 2025" للشبكة العربية لمدققي المعلومات (AFCN).
ضحكات وبهجة، وقلوب مرسومة بالأيدي، وهتاف للولايات المتحدة، ونساء بملامح مخفية يكررن عبارات تشيد بالمساعدات الأميركية، ويقدّمن الشكر للرئيس الأميركي دونالد ترامب. هذا المشهد يتكرر على الصفحة الرسمية لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" على منصة X (تويتر سابقاً)، لترسيخ سردية روّجت لها المؤسسة منذ بداية عملها في أواخر أيار/ مايو 2025، بعد 11 أسبوعاً من الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على القطاع. السردية التي روجت لها المؤسسة أنها أكثر كفاءة من قنوات الأمم المتحدة في توزيع المساعدات داخل غزة، وأنها تقوم بعمل منظم وآمن.
في المقابل، نشرت مجلة تايم في 1 آب/ أغسطس 2025، صورة لنساء وفتيات يحملن أوعية فارغة بانتظار المساعدات الغذائية. عكست الصورة ما أعلنته الأمم المتحدة في 22 من الشهر نفسه، بشأن دخول قطاع غزة رسميّاً في حالة مجاعة، وما أكدته تقارير أممية ودولية وثّقت حالات التجويع وسوء التغذية. الصورة تبعتها حملة تضليل ممنهجة اتهمت الصحفيات والصحفيين الفلسطينيين، ومنهم المصوّر أنس فتيحة، بفبركة مشاهد المجاعة، في محاولة لتقويض السردية الأممية حول تفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع.
التشكيك في شهادات الشهود
في 3 و5 آب/ أغسطس 2025، نشرت صحيفتا "زود دويتشه" و"بيلد" الألمانيتان تقارير زعمتا فيها أن حركة حماس تفبرك صور التجويع في قطاع غزة بهدف إثارة تعاطف الغرب وتأجيج الغضب ضد إسرائيل. في 6 آب/ أغسطس، أعادت "مؤسسة غزة الإنسانية" نشر ما وصفته بأنه "تحقيق" لصحيفة بيلد، زعمت فيه أن "نسبة كبيرة من الصور القادمة من غزة مفبركة من قبل مصورين مرتبطين بحماس وتُباع لوسائل إعلام غربية".
سرعان ما انخرطت حسابات رسمية إسرائيلية، من بينها الحساب الرسمي لإسرائيل ووزارة الخارجية الإسرائيلية، في إعادة نشر الادعاء على نطاق واسع. وقد زُعم أن الصورة التي تصدّرت غلاف مجلة تايم فبركها المصوّر الفلسطيني أنس فتيحة، رغم أن من التقطها فعليّاً هو المصوّر علي جاد الله. وأُدرجت الصورة مباشرة ضمن مصطلح "باليوود" (Pallywood)، في محاولة للترويج لرواية تزعم أن صور التجويع والقتل الصادرة من غزة مفبركة ومصطنعة.
يُستخدم مصطلح "باليوود" منذ سنوات كأداة دعائية إسرائيلية للتشكيك في مصداقية التغطية الإعلامية الفلسطينية، عبر الادعاء بأن الصور ومقاطع الفيديو القادمة من غزة والضفة الغربية مفبركة أو مُصطنعة. الهدف من هذا التوصيف هو تقويض ثقة الجمهور الدولي في الرواية الفلسطينية، والتشويش على التوثيق الأممي والدولي لانتهاكات الاحتلال. المصطلح تمت صياغته على غرار السينما الأميركية "هوليوود" والهندية "بوليوود" لتأكيد سردية فبركة الأحداث وإخراجها في قوالب درامية بعيدة عن الواقع.
تمحورت ادعاءات صحيفة "بيلد" حول صورتين ظهر فيهما المصوّر الفلسطيني أنس فتيحة وهو يلتقط صورا لأشخاص يحملون أواني فارغة بانتظار حصصهم الغذائية. واعتبر "التحقيق" المزعوم أن هاتين الصورتين تمثلان "دليلاً" على أن ازدحام طالبي المساعدات مفبرك ومُخرَج من قبل مصورين تابعين لحركة حماس. غير أن مراجعة الفيديو وبقية الصور التي نشرتها وكالة الأناضول في 24 تموز/ يوليو 2025 تكشف رواية مختلفة؛ إذ تُظهر أن اللقطة التقطها زميل آخر في إطار تقرير يوثق ظروف عمل الصحفيين في غزة خلال الإبادة المستمرة، وليس كجزء من أي عملية فبركة للصور.
وأوضح المصوّر أنس فتيحة لـ"الشبكة العربية لمدققي المعلومات" (AFCN) من أريج، أن الهدف من الصور كان توثيق كيفية تغطية الصحفيين الفلسطينيين لمشاهد التجويع التي يعيشونها يوميّاً، مشيراً إلى تسجيل عدة حالات إغماء بين الصحفيين أثناء عملهم الميداني. وفي هذا السياق، شارك أنس في تقرير أعدّته وكالة الأناضول تناول تجربة الصحفيين في تغطية المجاعة داخل غزة.
توثق بقية صور وكالة الأناضول أن اللقطة التُقطت بالفعل أمام مركز توزيع وجبات ساخنة في منطقة أنصار غرب مدينة غزة، تديره جمعية "ميرسي ميشن" الخيرية، حيث ظهر اسم الجمعية بوضوح على ملابس المتطوعين. كما يُظهر الفيديو الذي نشرته الوكالة في اليوم نفسه أن الناس تسلّموا الطعام بالفعل.
ورغم ضعف الادعاء وافتقاره لأي أدلة دامغة، فقد انتشر على نطاق واسع، متحوّلاً إلى حملة تحريض ضد المصوّرين الفلسطينيين استهدفت تقويض مصداقية أعمالهم ونفي سياسة التجويع الممنهج في غزة.
استخدام المُجوَّعين لإنكار التجويع
بينما يواجه المصورون المحليون اتهامات بالفبركة ويتعرضون لحملات تحريض، تواصل "مؤسسة غزة الإنسانية" ضخّ مواد بصرية منتقاة بعناية: أطفال يضحكون ويرسمون قلوباً، ونساء يشكرن الولايات المتحدة والرئيس ترامب، ويؤكدن أن المؤسسة أكثر فعالية من الأمم المتحدة في إيصال المساعدات.
ورغم أن هذه الصور والمقابلات ليست بالضرورة مفبركة، إلا أنها مُوجهة ومقتطعة من سياقها السياسي والاجتماعي المرتبط بالمجاعة والخوف من الجوع. في مقابلات مع ثلاث نساء نشرتها المؤسسة على منصة X، جاءت الأسئلة موجهة بشكل مباشر مثل: "كيف الوضع في غزة بعد ما أجت GHF وجابت معها المساعدات؟" و"ما هي رسالتك للرئيس ترامب؟".
غير أن الأهم من طبيعة الأسئلة هو السياق الذي جرى انتزاع هذه الصور والفيديوهات منه؛ فسياسات التجويع الإسرائيلية -من الحصار الكامل أو الجزئي للغذاء والدواء والوقود، إلى تدمير مصادر العيش كالزراعة والصيد والأسواق، ومنع دخول المساعدات الأممية- لم تقتصر على تفشي المجاعة ووفاة أكثر من 360 شخصاً بسبب سوء التغذية حتى نهاية آب/ أغسطس 2025، بل خلقت أيضاً واقعاً اجتماعيّاً معقداً أثّر على الوعي الجمعي نفسه. هكذا تستغل المؤسسة معاناة أشخاص مجوعين، وتوجّههم للإدلاء برسائل سياسية تخدم أهداف المؤسسة، ومن يدعمها، عبر أسئلة مُوجهة تهدف إلى إنكار واقع التجويع.
الهدف لا يتوقف عند تفريغ الأدلة من مضمونها -سواء أرقام أو شهادات أو صور- بل يتعداه إلى إظهار المؤسسة، والدولة الممولة لها ورئيسها، في صورة "المنقذ".
تُستخدم هذه اللقطات الانتقائية، ليس فقط لإنكار سقوط آلاف الضحايا والجرحى عمداً قرب مراكز المساعدات، بل أيضاً لنفي السياق الأوسع للمجاعة: الحصار والتجويع والدمار الشامل لمقومات الحياة. والهدف لا يتوقف عند تفريغ الأدلة من مضمونها -سواء أرقام أو شهادات أو صور- بل يتعداه إلى إظهار المؤسسة، والدولة الممولة لها ورئيسها، في صورة "المنقذ".
الصورة كساحة معركة
لم تعد الصورة في زمن الإبادة مجرد وسيلة لتوثيق الجرائم، بل تحولت إلى جزء من معركة السرديات ذاتها. فمن جهة، يعمل المصوّرون المحليون في غزة في ظروف شبه مستحيلة، يوثّقون الجوع والمجازر رغم المخاطر التي تهدد حياتهم. ومن جهة أخرى، تعمل آلة تضليل منظمة على نزع مصداقيتهم عبر اتهامات بالفبركة، وتوظّف صور نساء وأطفال مجوّعين بعد اجتزائها من سياقها السياسي والاجتماعي، للترويج لرواية تنفي وجود المجاعة والتجويع في غزة.
القضية هنا تتجاوز غلاف تايم أو اسم مصوّر بعينه، لتصل إلى جوهر الرواية: إمّا الاعتراف بوجود الجوع أو إنكاره؛ إمّا كشف الإبادة أو تبريرها.