غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
في خيمة ضيقة نُصبت على عجل في حي تل الهوا بغزة، تجلس أسماء شملخ (16 عامًا)، تحاول أن تتكيّف مع حياة لم تخترها. قبل الحرب، كانت طالبة متفوقة تعشق كتابة القصص والشعر، واليوم تجد نفسها أسيرة أعباء يومية ثقيلة لا تناسب طفلة في عمرها.
تقول لـ"نوى": "كل يوم أصحو أترقب حال غزة، ثم أساعد أمي في شغل البيت، أكنس الخيمة وأنظف ما حولها، أغسل الأطباق، وأنتظر دوري لأملأ الماء من شاحنات المساعدات".
"كل يوم أصحو أترقب حال غزة، ثم أساعد أمي في شغل البيت، أكنس الخيمة وأنظف ما حولها، أغسل الأطباق، وأنتظر دوري لأملأ الماء من شاحنات المساعدات".
الماء الذي كان يومًا يتدفق من صنابير البيوت، صار الحصول عليه اليوم رحلة شاقة تمشي فيها مسافات طويلة، ثم تصطف في طوابير مزدحمة قد تعود منها خالية اليدين. تتابع: "كثيرًا ما أعود بلا شيء، وفي الطابور تحدث مشاكل وصراخ. لكن لا خيار أمامنا، فالماء للشرب والتنظيف".
نصف يومها يذوب في أعمال منزلية متكررة، ومع كل يوم تتشكل ملامح "ربة بيت صغيرة"، بينما القصف المستمر يضاعف خوفها. تقول: "أشعر أني كبرت غصبًا عني، مع أني لا أزال طفلة". ورغم محاولتها متابعة دروسها عبر الإنترنت، تعترف أن أحلامها تقلّصت كثيرًا: "كنت أفرح بشهادات التقدير وأخطط لمستقبل واسع، لكن الحرب قصرت الطريق وقطعت خيط الأمل".
"نفسي أرجع لمدرستي وأكمل دراستي، وأدخل الجامعة وأشتغل. بدي أسترجع مستقبلي اللي عم بضيع".
من المواقف التي لا تفارقها، اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم النصيرات (عندما كانت نازحةً هناك) بحثًا عن أسرى إسرائيليين بينما كان والداها بعيدين. "لم أعرف كيف أحمي إخوتي، ركضنا مع الناس الهاربين، ولم أهدأ إلا عندما وجدت أمي وأبي عبر الهاتف".
وبرغم قسوة التجربة، ما زالت أسماء تتمسك بأمنية واحدة: أن تتوقف الحرب. "نفسي أرجع لمدرستي وأكمل دراستي، وأدخل الجامعة وأشتغل. بدي أسترجع مستقبلي اللي عم بضيع".
جودي عزام، ذات الثلاثة عشر عامًا، تعيش المشهد ذاته تقريبًا. كانت تلميذة مجتهدة تحب الإنجليزية وتسعى لتطوير مهاراتها، لكنها اليوم تقضي وقتها بين المطبخ ورعاية إخوتها. تقول وهي تمسح يديها بعد غسل الأطباق: "أساعد أمي في الجلي والطبخ وإشعال النار، أعتني بإخوتي الصغار وأدرّسهم. حتى تعبئة الماء الحلو والمالح صارت من مهامي اليومية".
أكثر ما ينهكها هو الوقوف في طوابير المياه تحت الشمس. ومع ذلك، تحاول أن تجد فسحة مختلفة، فتخصص ما تبقى من وقتها للدراسة وحفظ القرآن في نقطة قريبة من بيتها. تضيف بابتسامة خفيفة: "هناك أشعر بالراحة، وكأني أعيش لحظة بعيدة عن الحرب".
لكن بعض الأيام أثقل من قدرتها. تروي جودي: "مرة مرضت أمي وذهبت للمستشفى، بقيت وحدي مع إخوتي الأربعة، أطعمهم وأدرّسهم وألبي طلباتهم. شعرت أني أمهم، مع أني طفلة".
وبرغم صلابتها أمام إخوتها، تعترف أن قلبها يرتجف كل ليلة مع دوي القصف. تقول بصوت خافت: "أحاول أن أبدو قوية أمامهم، لكن حين ينامون أبكي بصمت. أحلم أن نعيش يومًا عاديًا بلا صواريخ، بلا سؤال إذا كنا سنبقى أحياء".
"أتمنى أن تنتهي الحرب، أعود لمدرستي، وألتحق بمركز القطان لأمارس ما أحب. أريد أن أكبر وأدخل الجامعة وأصبح طبيبة أعالج المرضى".
ورغم كل ذلك، تتمسك جودي بحلمها. تقول بحزم طفولي: "أتمنى أن تنتهي الحرب، أعود لمدرستي، وألتحق بمركز القطان لأمارس ما أحب. أريد أن أكبر وأدخل الجامعة وأصبح طبيبة أعالج المرضى".
إلى جوارها تجلس أمها، سوما عاشور، بوجهٍ مرهق وابتسامة تخفي قلقها. تقول: "البنات فقدوا طفولتهم. بدل أن يكونوا شعلة نشاط، صاروا محمّلين بطاقة سلبية واكتئاب. في عمرهم الطبيعي يجب أن يلعبوا ويتعلموا، لا أن يتذكروا فقط ما فقدوه".
تتوقف عن الكلام قليلًا، ثم تضيف بصوت يغص بالحزن: "التعب الجسدي ينهكهم من أسلوب الحياة القاسي. أنا شخصيًا أشعر أنني أتقطع من الداخل حين أراها ترهق نفسها".
أحاول أن أبعدها عن المهام الصعبة بلا جدوى. أشجعها على الذهاب لحفظ القرآن أو الدراسة، حتى لا تضيع طفولتها بين الماء والجلي والطبخ".
تحاول الأم أن تحمي ابنتها من الانهيار الكامل: "هي لا ترضى إلا أن تساعدني، وأحاول أن أبعدها عن المهام الصعبة بلا جدوى. أشجعها على الذهاب لحفظ القرآن أو الدراسة، حتى لا تضيع طفولتها بين الماء والجلي والطبخ". ويغمرها شعور مزدوج: فخر بقدرتها على تحمل المسؤولية، ووجع لأن هذه المسؤولية أكبر من سنواتها. "ما يوجع أكثر أني أرى فيها طموحًا وحياة، لكن الحرب حوّلتها لربة بيت صغيرة قبل أوانها".
من جانبها، توضّح الأخصائية النفسية سلمى السويركي أن فتيات غزة لا يفقدن طفولتهن فحسب، بل يواجهن آثارًا نفسية عميقة تمتد لمستقبلهن. تقول: "حين تتحمل الطفلة مسؤوليات تفوق عمرها، تفقد هويتها تدريجيًا، ويضعف شعورها بذاتها وثقتها بنفسها. كثير منهن يعانين عزلة وقلقًا واكتئابًا، وقد تتطور لحالات أكبر".
"النزوح المستمر والوضع الاقتصادي المتدهور يضعفان فرص الفتيات في التعلم، ويقلصان إمكانية تحقيق طموحاتهن. إذا لم يكن هناك تدخل عاجل، سنواجه جيلًا محرومًا من أبسط حقوقه".
وترى أن هذه الأعباء تنعكس مباشرة على مستقبل التعليم. "النزوح المستمر والوضع الاقتصادي المتدهور يضعفان فرص الفتيات في التعلم، ويقلصان إمكانية تحقيق طموحاتهن. إذا لم يكن هناك تدخل عاجل، سنواجه جيلًا محرومًا من أبسط حقوقه".
وتشدد على أن الحل لا يكفي أن يكون في شكل مساعدات معيشية، بل عبر برامج دعم نفسي وتمكين اجتماعي. "يجب تعليم الفتيات كيف يضعن خططًا بديلة للتعامل مع الظروف الصعبة، ومساعدتهن على الاستمرار بطريقة صحية رغم القهر"، تزيد.
وتختم السويركي بأن تمكين الفتيات يبدأ من البيت والمجتمع، إلى جانب تعزيز التعليم وإتاحة المساحات لممارسة الهوايات. "هكذا فقط يمكن إعادة بعض التوازن النفسي، وحماية مستقبل الطفولة من الضياع".