"شرعنة العدوان".. هكذا تصنع "إسرائيل" غطاءً لجرائمها بغزة!
تاريخ النشر : 2025-09-15 19:55

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في ساعة متأخرة من ليلة الأحد، العاشر من آب/ أغسطس 2025م، وبينما كانت غزة تئن تحت وطأة القصف والمجاعة، استشهد أنس الشريف، المراسل الميداني لقناة الجزيرة، رفقة أربعة من زملائه، في ضربة جوية استهدفت خيمتهم قرب مستشفى الشفاء.

لم يكن أنس يحمل سلاحًا، بل كان يوثق بعدسته ما تبقى من حياةٍ في مدينة تُباد على الهواء مباشرة. بعد أقل من ساعة على استشهاده، خرج جيش الاحتلال الإسرائيلي ببيان مقتضب، مدعومًا بما أسماها "وثائق استخباراتية"، زاعمًا أن أنس انضم إلى حركة حماس عام 2013م حين كان في السابعة عشرة من عمره، كذريعة لنزع صفته كصحفي محمي بموجب القانون الدولي. لم يتطرق البيان إلى بقية الصحفيين الذين استشهدوا معه، فقد كانت الرواية جاهزة ومصاغة بعناية، وكأنها تنتظر لحظة النشر.

هذا النمط من الذرائع لم يقتصر على الأفراد فقط، بل شمل منشآت مدنية وصحية شهدت ارتكاب مجازر موثقة رغم شمولها بالحماية الدولية، مثل قصف الطائرات الإسرائيلية لمدرسة التابعين في حي الدرج بمدينة غزة في العاشر من أغسطس 2024م، الذي أسفر عن استشهاد أكثر من مئة فلسطيني من النازحين داخلها، بينهم أطفال ونساء.

زعم الاحتلال أن المدرسة تضم غرفة قيادة نشطة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وأن الضربة كانت "دقيقة" واستهدفت "مقاتلين فقط". لكن الصور التي انتشرت بعد المجزرة أظهرت أشلاء العشرات في ساحة المدرسة، فيما لم تُقدم أي أدلة مستقلة على وجود نشاط عسكري بداخلها، ولم يُسمح بتحقيق دولي.

"وحدة استخباراتية سرية داخل جهاز "أمان" تُعرف باسم "خلية الشرعية"، تأسست في أكتوبر 2023م. مهمتها صياغة روايات جاهزة تمنح العمليات العسكرية غطاءً قانونيًا وإعلاميًا".

وفي هذا السياق، كشف الصحفي الإسرائيلي يوفال أفراهام في تحقيق استقصائي عن وجود وحدة استخباراتية سرية داخل جهاز "أمان" تُعرف باسم "خلية الشرعية"، تأسست عقب عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023م. مهمتها ليست حماية الجنود أو منع الهجمات، بل صياغة روايات دعائية جاهزة تمنح العمليات العسكرية غطاءً قانونيًا وإعلاميًا. تضم هذه الخلية عناصر متخصصة في جمع وتحليل المعلومات لاستخدامها في هندسة السرديات التي تُمرر إلى الإعلام المحلي والدولي، وأحيانًا إلى جهات أمريكية، بهدف توفير غطاء سياسي واستباقي لأي انتقادات محتملة.

تعتمد "خلية الشرعية" على ذرائع مختلفة: اتهام الصحفيين بالانتماء إلى حماس لتبرير استهدافهم، وادعاء استغلال المستشفيات أو المدارس في أنشطة عسكرية لتبرير قصفها، والتمسك بسردية استخدام المدنيين كـ"دروع بشرية" للتنصل من مسؤولية المجازر. ولا يتوقف عملها عند العمليات العسكرية، بل يتعداها إلى السياسات اليومية، مثل تبرير منع دخول المساعدات الإنسانية بحجة "منع سيطرة حماس عليها"، أو حرمان المستشفيات ومحطات المياه من الوقود بحجج مشابهة.

وتوضح ليما بسطامي، مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي، لـ"نوى"، أن عمل هذه الخلية يقوم على "تسويق روايات بلا أساس أمام الرأي العام وصانعي القرار، في محاولة لحماية صورة إسرائيل من النقد الدولي وضمان استمرار الدعم الخارجي، بما يجعل نشاطها أداة مباشرة لترسيخ البيئة التي تسمح باستمرار جريمة الإبادة الجماعية".

من الصحفي إلى الطبيب، تتسع دائرة الاستهداف. ففي ديسمبر 2024م، حاصرت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان شمالي غزة، تخلل ذلك قصف وإطلاق نار على المرضى والكوادر الطبية والنازحين، وسقط عشرات الشهداء والمصابين دون قدرة الطواقم على إنقاذهم. وكان المشهد الختامي مأساويًا: صورة مدير المستشفى، الطبيب حسام أبو صفية، معتقلاً داخل دبابة إسرائيلية بتهمة "مقاتل غير شرعي".

هذه الصورة أثارت غضبًا عالميًا واسعًا، لكن "إسرائيل" واجهتها بذات الذريعة: المستشفى كان مركز قيادة لحماس. لم تُقدم أي أدلة، ولم يُسمح بتحقيق مستقل، وكانت الرواية جاهزة ومتكررة، تُشبه تلك التي استُخدمت لتبرير قصف مستشفيات الشفاء والأمل والقدس وغيرها.

ويرى الباحث في الشؤون الإسرائيلية عزيز المصري أن هذه السرديات موجهة بالأساس إلى الجمهور الدولي، لتشويه صور الضحايا وقطع الطريق على أي رواية واضحة تُدين الاحتلال، عبر تغليف الجرائم في إطار "أهداف مشروعة ضد متورطين". هذا، برأيه، يُضعف التعاطف العالمي ويُحبط أي حراك قانوني جدي.

المرصد رصد تكرار هذه السرديات عقب الجرائم الكبرى، مثل قصف مستشفيات المعمداني والشفاء والأوروبي، ومجازر الطحين، واستهداف الصحفيين والمدارس ومقار "أونروا".

وبالعودة إلى بسطامي، فتوضح أن المرصد رصد تكرار هذه السرديات عقب الجرائم الكبرى، مثل قصف مستشفيات المعمداني والشفاء والأوروبي، ومجازر الطحين، واستهداف الصحفيين والمدارس ومقار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا". وتقول: "نعتمد منهجية تحقيق شاملة لجمع الأدلة المادية والرقمية، وتوثيق الشهادات وتحليل صور الأقمار الصناعية. وفي حالات عدة، تمكّنا من تفنيد الادعاءات الإسرائيلية وإثبات الطابع المنهجي لهذه الانتهاكات باعتبارها جزءًا من سياسة إبادة ممنهجة".

ويستشهد المصري بحادثة مجزرة مستشفى المعمداني التي راح ضحيتها نحو 500 شهيد، حين نشر جيش الاحتلال تسجيلًا لمكالمة هاتفية زعم أنها بين عنصرين من حماس يلومان حركة الجهاد الإسلامي على قصف المستشفى بصاروخ خاطئ. ويعلّق: "هذا النوع من التضليل يحول النقاش من سؤال: هل ارتكبت إسرائيل انتهاكًا؟ إلى: من المسؤول فعلاً؟ أي أنه يحوّل اللوم من دولة الاحتلال إلى طرف آخر، أو يخلق جدلًا مشتتًا يمنحها وقتًا لامتصاص ردات الفعل الدولية". ويضيف: "الرواية الأولية، حتى لو ثبت بطلانها لاحقًا، تكون قد انتشرت وتبنّاها الإعلام العالمي في ذروة الحدث".

"خلية الشرعية" تتموضع عند تقاطع المؤسسة العسكرية والدبلوماسية والإعلام الرسمي والرقمي في دولة الاحتلال؛ لتضخ روايتها عبر الناطق العسكري ووزارة الخارجية والسفارات وغرف الأخبار.

وتوضح بسطامي أن "خلية الشرعية" تتموضع عند تقاطع المؤسسة العسكرية والدبلوماسية والإعلام الرسمي والرقمي في دولة الاحتلال؛ لتضخ روايتها عبر الناطق العسكري ووزارة الخارجية والسفارات وغرف الأخبار، بما في ذلك المنابر الدولية المنحازة لها.

وتؤكد في ختام حديثها أن الرأي العام الدولي بدأ يشهد تحولات تحت وقع فظاعة الجرائم الإسرائيلية، لكن تعزيز هذه التحولات يتطلب آليات تحقق سريعة وموثوقة، وتعاونًا أكبر بين وسائل الإعلام الاستقصائية، وتفعيل مسارات المساءلة القانونية والبرلمانية، إضافة إلى ترسيخ منظومة معرفية قائمة على الأدلة قادرة على فضح السرديات المضللة منذ لحظة ظهورها.