غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
لم تتوقع السيدة تحرير حميد، وهي في عقدها الثالث من العمر، أن تتحول لحظة سعادة ابنها خضر، البالغ من العمر سبعة أعوام، بعد تناوله قطعة "آيس كريم"، إلى كابوس مؤلم وأيام طويلة من المعاناة.
فبعد دقائق معدودة، بدأ خضر يتلوّى من آلام معدته. تطورت حالته لاحقًا إلى إسهال شديد، دفع بوالدته للذهاب به إلى أقرب عيادة طبية. وبعد إجراء الفحوصات، أبلغها الطبيب أن الطفل تناول مواد غذائية غير معلومة سببت له مغصًا شديدًا، ناصحًا إياها بعدم إعطائه المثلجات مجددًا، مع وصف أدوية مهدئة ومسكنة.
تقول السيدة: "لاحظت أن يد طفلي تحولت إلى اللون الأحمر، وهو نفس لون الآيس كريم الذي أكله، واستمر اللون لأيام"، متسائلة: "ما المواد التي يصنعونه منها، حتى تُحدث هذا التأثير المرعب؟".
في حادثة مشابهة، عانت الشابة نور حسين (22 عامًا) من آلام حادة في البطن، بعد تناولها قطعة "آيس كريم" بطعم العنب. وتخبرنا: "بعد نحو نصف ساعة من تناولي القطعة، شعرت بألم شديد، تخلله قيء متكرر، وقضيت ساعات صعبة في البيت قبل التوجه للمستشفى لأخذ محلول وريدي يخفف من حدة المغص".
نور، كغيرها من المواطنين، تتساءل: "من يراقب ما يُعرض في الأسواق؟ ومن يحمي الأطفال من هذه المنتجات الخطرة التي يتناولونها يوميًا؟".
تُباع هذه المنتجات في أنحاء القطاع عبر ثلاجات متنقلة توضع على عربات تجرها الحيوانات، مما يرفع احتمالية تلوثها أو تعرضها للتخزين غير الصحي.
وفي ظل الحصار ونقص المواد الخام، ارتفع سعر قطعة المثلجات من شيكل إلى خمسة، ورغم هذا ما يزال الإقبال عليها كبيرًا، خاصة من الأطفال الذين يجذبهم اللون الزاهي والمذاق المغري الحلو دون إدراك لخطرها.
مراسل "نوى"، توصل لمعلومات متفرقة، حول أن بعض صناع المثلجات المحلية، خاصة تلك التي تُباع عبر عربات جوالة في الشوارع، يستخدمون مضادات حيوية مخصصة للأطفال بنكهات فواكه كالبرتقال والعنب والفراولة، بديلًا عن السكر أو النكهات الطبيعية. هذا الاستخدام الخطير يشكل تهديدًا مباشرًا لصحة المستهلكين، وبشكل خاص الأطفال.
تُباع هذه المنتجات في أنحاء القطاع عبر ثلاجات متنقلة توضع على عربات تجرها الحيوانات، مما يرفع احتمالية تلوثها أو تعرضها للتخزين غير الصحي.
بائع: "منتجي المثلجات باتوا يستخدمون مضادات حيوية بنكهات مختلفة، كبديل عن السكر.. نعم هذا صحيح".
جولةٌ قصيرة في شارع الجلاء بمدينة غزة، كانت كفيلة بمقابلة أحد الباعة، وقد رفض ذكر اسمه في التقرير. قال: "بعض منتجي المثلجات باتوا يستخدمون مضادات حيوية بنكهات مختلفة، كبديل عن السكر.. نعم هذا صحيح".
وأضاف: "هذه المواد يصعب تمييزها، خاصة عند خلطها بكميات قليلة من السكر والماء، مما يجعل اكتشاف استخدامها أمرًا معقدًا".
وأشار البائع إلى أن سعر كيلو السكر كان قبل الحرب نحو 3 شواقل، لكنه وصل قبل دخوله الخميس الماضي، بعدة أيام، إلى 300 شيقل، في ظل أزمة اقتصادية متفاقمة ونقص حاد في الإمدادات، ما دفع بعض المنتجين للبحث عن بدائل رخيصة، ولو على حساب صحة المستهلكين".
حكيم: أطفال وصلوا العيادات يعانون من آلام شديدة في البطن وارتفاع في درجات الحرارة، وبعد الاستفسار تبيّن أنهم تناولوا مثلجات من نوع "الأسكمو".
ولفهم أعمق، تواصل معد التقرير مع أحد الصيادلة المختصين، الذي أكد الأمر، وأوضح أن تناول المضادات الحيوية دون وصفة طبية أو إدخالها في الطعام قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، من بينها اضطرابات في الجهاز الهضمي، ومقاومة للأدوية، وحتى التسمم الغذائي.
وفي السياق ذاته، صرح الحكيم محمد الشوا، وهو ممارس صحي يعمل في عيادته بمخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، أن عددًا من الأطفال وصلوا إلى عيادته وهم يعانون من آلام شديدة في البطن وارتفاع في درجات الحرارة، وبعد الاستفسار تبيّن أنهم تناولوا مثلجات من نوع "الأسكمو".
وأوضح الشوا، أن اختفاء بعض أصناف المضادات الحيوية من الصيدليات وارتفاع أسعارها مؤخرًا قد يكون مؤشرًا على استخدامها في غير أغراضها الطبية، "ومنها صناعة المشروبات والمثلجات"، ما يشكل خطرًا صحيًا حقيقيًا على الأطفال والمستهلكين عمومًا.
ويؤكد الصيدلاني ذو الفقار سويرجو أن استخدام أي نوع من الأدوية، وخاصة المضادات الحيوية، دون إشراف طبي هو أمر شديد الخطورة، لما قد يسببه من مضاعفات صحية حادة على المدى القريب والبعيد.
ويشرح سويرجو أن بعض الجهات تلجأ إلى استخدام مضادات حيوية بنكهات مخصصة للأطفال –كالعنب والفراولة والموز– ظنًا أنها تحتوي على نسب عالية من السكر، مؤكدًا أن هذه المعلومة خاطئة تمامًا.
وشدد على أن هذه الأدوية لا تحتوي على السكر كما يُشاع، واستخدامها بهذه الطريقة يعرّض المستهلكين لمخاطر صحية قد تصل إلى الإصابة بأمراض مزمنة، بل وحتى السرطان.
وأشار إلى أن القوانين الصحية تحظر بشكل صريح استخدام الأدوية في الصناعات الغذائية، بما في ذلك المثلجات والمشروبات، مؤكدًا أن الجهات الرقابية تفرض قيودًا صارمة على مثل هذه الممارسات.
"استمرار الحرب ونقص المواد دفعت بعض العاملين في مجال الصناعات الغذائية إلى استخدام المضادات الحيوية كبديل للسكر في تصنيع الأسكمو".
لكنه أبدى أسفه من أن استمرار الحرب ونقص المواد دفعت بعض العاملين في مجال الصناعات الغذائية إلى استخدام المضادات الحيوية كبديل للسكر في تصنيع الأسكمو.
وأضاف: "في الأوضاع الطبيعية، لم يكن أحد يستخدم هذه الأدوية في الصناعة، لكن الحرب وغياب البدائل دفعت البعض لذلك. والأخطر أنه لا توجد رقابة كافية الآن، ولا جهة تحاسب، ما جعل الأمر متروكًا فقط للأخلاق والضمير".
من جهته، يوضح الدكتور رائد زعرب، رئيس قسم الطب الوقائي في وزارة الصحة بقطاع غزة، أن العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة أدى إلى تدمير مختبرات فحص الأغذية التابعة للوزارة، إضافة إلى مختبرات الجامعتين الإسلامية والأزهر، ما عرقل بشدة قدرة الطواقم الطبية على إجراء الفحوصات الدورية والتأكد من سلامة المنتجات.
وقال زعرب لمعد التقرير: "إن استخدام أدوية السعال والمضادات الحيوية الخاصة بالأطفال في صناعة المثلجات بزعم احتوائها على السكر يشكل خطرًا بالغًا"، مؤكدًا أن هذه المواد تسهم في زيادة مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية داخل أجسام الأطفال، ما يصعب علاجهم لاحقًا، ويعرضهم لمضاعفات صحية خطيرة.
"هذه الممارسات "جريمة طبية" يعاقب عليها القانون، ووزارة الصحة تبذل جهودًا محدودة في متابعة المصانع المعروفة فقط، في ظل غياب الأمن، وندرة المفتشين، وصعوبة الحركة والتنقل".
ولفت إلى أن بعض الروايات تشير إلى لجوء عدد من المصانع العشوائية لاستخدام هذه المواد في تصنيع "الأسكمو"، إلا أن تعذر الوصول إليهم بسبب الحرب والنزوح المستمر حال دون اتخاذ إجراءات قانونية بحقهم.
ووصف هذه الممارسات بـ"الجريمة الطبية" التي يعاقب عليها القانون، موضحًا أن وزارة الصحة لا تزال تبذل جهودًا محدودة في متابعة المصانع المعروفة فقط، في ظل غياب الأمن، وندرة المفتشين، وصعوبة الحركة والتنقل.
ودعا رئيس قسم الطب الوقائي المواطنين إلى الامتناع عن شراء أو تناول أي مثلجات لا تحمل بطاقة بيان واضحة، أو لا يُذكر فيها اسم المصنع والمكونات، مشددًا على أن هذه المنتجات مجهولة المصدر يجب التخلص منها فورًا، لأنها تشكل تهديدًا مباشرًا على الصحة العامة.
وأشار إلى أن الأوضاع الصحية والرقابية كانت أكثر استقرارًا قبل الحرب، وكانت الرقابة تمارس دورها بانتظام، وتتخذ إجراءات حاسمة ضد المخالفين، من بينها التحفظ على المنتجات المشبوهة وتحليلها مخبريًا، وصولًا إلى محاسبة المتورطين.
أما اليوم، وفي ظل الحرب المدمّرة والنزوح المتكرر، فقد تراجعت الرقابة بشكل حاد، وتفاقمت التحديات الصحية، ما أتاح المجال لممارسات خطيرة تهدد حياة المواطنين، أبرزها استخدام المضادات الحيوية في الصناعات الغذائية.
وفيما تبذل الجهات المختصة جهودًا متواضعة لمواجهة هذه الظاهرة، تبقى مسؤولية الوعي المجتمعي والرقابة الذاتية ضرورة لا غنى عنها، فحماية الصحة العامة تبدأ من وعي المستهلك وحرصه على التحقق من مصدر ما يتناوله، في انتظار أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وتُستعاد الرقابة الفاعلة من جديد.