عمّال المشافي.. "جنودٌ" يمسحون وجع المدينة "في الظل"!
تاريخ النشر : 2025-07-08 12:13
صورة تعبيرية

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

كل صباح، ومع أول خيوط الضوء، يبدأ أشرف الزين رحلته اليومية من الخيمة إلى المجهول. بدراجته الهوائية المهترئة، يعبر طرقات الموت من حيّ النصر، ليصل في السادسة صباحًا إلى المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، ويبدأ مهامه في تنظيف وتعقيم أروقته، وكأنه يحاول مقاومة ركام الدمار برائحة المُطهّر، ومسحة أمل.

العمل في مستشفيات قطاع غزة بات مهمة تشبه الانتحار، لا سيما بالنسبة لعمال النظافة الذين يباشرون مهامهم وسط الركام والخطر، بدون تأمين، وبدون رواتب منتظمة، وبدون حتى ضمانة بالحياة في اليوم التالي.

"منذ بداية حرب الإبادة على غزة، نعمل 17 ساعة، وأحيانًا نكمل 24 ساعة متواصلة (..) مرّت أشهر لم أرَ فيها أسرتي، أكتفي بسماع أصواتهم لعدة دقائق عبر الهاتف، ثم أعود إلى الجحيم".

"منذ بداية حرب الإبادة على غزة، نعمل 17 ساعة، وأحيانًا نكمل 24 ساعة متواصلة"، يقول أشرف وهو يروي معاناته مع التعب والخوف وغياب العائلة. "أشهر لم أرَ فيها أسرتي، أكتفي بسماع أصواتهم لعدة دقائق عبر الهاتف، أطمئن عليهم ويطمئنون عليّ، ثم أعود إلى الجحيم" يعلق.

لم تكن هذه الحرب الأولى التي يخوضها الزين في غمار عمله، فهو يعمل في تنظيف المستشفيات منذ 15 عامًا، متنقلاً بين كمال عدوان، والمستشفى الإندونيسي، والرنتيسي للأطفال، ومستشفى العيون، وآخرها اليوم، في الأهلي العربي. يقول: "كنا محاصرين في مستشفى كمال عدوان مع الدكتور حسام أبو صفية، وقوات الاحتلال اقتحمت المكان، ضربونا وحققوا معنا، ولما عرفوا أننا عمّال تنظيف، عذّبونا بشراسة، وكأننا شهود على كل ما يحدث".

الزملاء الذين فقدهم أشرف ليسوا أرقامًا، بل وجوه حفظها، وأسماء لا تفارق ذاكرته. "رأيت جثثهم ممزقة، كانوا قادمين للعمل مثل كل يوم، لكنهم لم يعودوا".

الزملاء الذين فقدهم أشرف ليسوا أرقامًا، بل وجوه حفظها، وأسماء لا تفارق ذاكرته. "رأيت جثثهم ممزقة، كانوا قادمين للعمل مثل كل يوم، لكنهم لم يعودوا" يضيف بحسرة.

لا يختلف حال "أم أحمد" عن أشرف. عاملة نظافة في مستشفى توليد، وأم لثمانية أفراد، تعود من عملها منهكة لتكمل يومها في جمع الحطب، وتسخين المياه، وغسل ملابسها يدويًا، خوفًا من العدوى.

تخبرنا: "أنا أهيئ المكان للطبيب والممرضة.. دوري يسبقهم، فبدون تعقيم لا طب". تنظُر إلى الأرض لوهلة وتتابع: "أخاف من شظية تقعدني، لا يوجد تأمين، ولا يوجد راتب منتظم، ونعمل رغم كل شيء".

ما تعانيه هذه الشريحة لا يقف عند حدود الراتب أو ساعات العمل الشاقة، بل يتجاوز ذلك إلى انعدام الحماية القانونية، والاستغلال من قِبل الشركات المشغّلة التي تتذرّع بعدم دفع الحكومة لمستحقاتها. أربعة أشهر بدون راتب، وأوضاع معيشية تكاد تكون مأساوية.

يقول شاكر بليحة، مشرف عمال النظافة في مستشفى الأهلي العربي: "العمال يعملون وفق نظام طوارئ مرهق، 10 ساعات صباحًا و14 ليلًا، بعدما كان العمل بنظام ثلاث ورديات كل منها 8 ساعات فقط".

ويضيف بليحة لـ"نوى": "أغلب العاملين نزحوا من بيوتهم المدمّرة، ويعملون لساعات طويلة ثم يعودون لمهام الحياة الأساسية كجمع الماء والطعام".

لا يقتصر الدور الذي يؤديه هؤلاء على النظافة فقط، بل يتعدى إلى الشراكة الفعلية في إنقاذ أرواح، إذ إنهم من يطهرون أماكن العمليات، ويعقّمون معدات الحياة، ويزيلون آثار الدماء.

ولا يقتصر الدور الذي يؤديه هؤلاء على النظافة فقط، بل يتعدى إلى الشراكة الفعلية في إنقاذ أرواح، إذ إنهم من يطهرون أماكن العمليات، ويعقّمون معدات الحياة، ويزيلون آثار الدماء. يزيد بليحة: "مثلما يؤدي الطبيب دوره الإنساني، عامل النظافة كذلك، لكنه لا يجد التقدير، ولا حتى تأمينًا على حياته."

العمل في مستشفيات غزة وسط حرب مفتوحة هو بمثابة عبور دائم بين الحياة والموت. ومع ذلك، لا يتوقف عمال النظافة عن أداء مهامهم. يمسحون الأرضيات وكأنهم يمسحون بعضًا من وجع المدينة. يحلمون براتب في موعده، أو تأمين يطمئن أسرهم، أو حتى كلمة شكر لا تُقتطع من أرواحهم المنهكة.

في غزة، حيث تتقاطع الحرب مع العيش، والدم مع الطحين، يبقى عمّال النظافة جنودًا مجهولين، يقاتلون بصمت، يواجهون الموت كل يوم، من أجل حياة الآخرين.