التمييز في الإغاثة.. خيامٌ للأقارب وغذاءٌ لمن يدفع!
تاريخ النشر : 2025-06-17 14:43
صورة تعبيرية

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في خيمة نُصبت بشكل عشوائي قرب منتزه البلدية شرقي مدينة غزة، تجلس وجدان أبو عودة، وهي نازحة من بيت حانون، وسط عائلتها المكونة من ثلاثة عشر فردًا، وتبدأ بسرد رحلتها الطويلة الموجعة عبر ثمانية أشهر من النزوح. تقول لـ"نوى": "مررنا على مدارس ومخيمات، ورأينا الجوع بأشكاله، لكن وجع الظلم أصعب من وجع الجوع".

منذ أن اندلعت الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م، تنقلت وجدان (أم صلاح) بين جباليا شمالًا، ورفح وخانيونس جنوبًا، ودير البلح وسط قطاع غزة، قبل أن تستقر في ذلك المخيم العشوائي، بلا كهرباء أو ماء أو أدنى مقومات الحياة.

"منذ بداية الحرب، لم تصلني كرتونة ولا كيس طحين. من له علاقات يحصل على كل شيء، ومن ليس له أحد يُهمَل".

ورغم ضيق الحال، لم تحصل على أيٍ من الطرود الغذائية أو المساعدات، التي يُفترض أنها موجهة للنازحين. تضيف بغصّة: "منذ بداية الحرب، لم تصلني كرتونة ولا كيس طحين. من له علاقات يحصل على كل شيء، ومن ليس له أحد يُهمَل"، مردفةً: "طلبتُ خيمة، فأخبرني أحدهم أن اسمي موجود، وعندما واجهتُ المندوب، قال لي بحدة: اخرجي من هنا، المساعدات محجوبة عنكِ".

هذا التمييز ليس حالةً فردية، بل جزء من نمط متكرر، تعكسه شهادات نازحين آخرين التقت بهم "نوى". من هؤلاء، أبو محمد (48 عامًا)، النازح في مواصي خانيونس، جنوبي القطاع، ويعيل أسرته المكونة من ثمانية أفراد.
يخبرنا بنبرةٍ تمزج بين الغضب والانكسار: "طلبنا خيمًا وطرودًا صحية من أكثر من جهة، لكن لم ترد علينا سوى مؤسسة واحدة. باقي المؤسسات لا ترد إلا على المحسوبين من "الحبايب"، مضيفًا: "نُذَلّ لنحصل على ما يسد رمقنا. أصبح الحصول على كوبونة حلمًا بعيد المنال، فالواسطة صارت أقوى من الحاجة".

سوق مساعدات!

لينا مراد أيضًا، أرملة في مطلع الثلاثين وأم لأربع طفلات، فقدت زوجها في الحرب، وتقيم مع بناتها في خيمة واحدة. هي الأخرى تحكي بقهر: "أرسلتُ طلبات عبر الصفحات، اتصلتُ كثيرًا، لكن الردود معظمها وعود. كل ما أريده هو بطاقة طعام أو فرشة".

تقول إنها حصلت فقط على خيمة من مؤسسة، لكن حين طلبت مساعدة غذائية، رفضوا: "قالوا إنني استفدتُ مسبقًا".

وبالعودة إلى أم صلاح، فإنها تتحدث عن أن بعض النازحين في دير البلح، وسط القطاع، دفعوا أموالًا للتسجيل في برامج الغذاء العالمي! "30 شيكلًا للتسجيل، ولم تأتهم رسالة، ولم يحصلوا على كيس طحين".

"ما ذنب نازحة لديها ستة أطفال أن تدفع 100 شيكل فقط ليتم تسجيل اسمها؟ بعضهم يدفع ولا يظهر اسمه أصلًا".

وتتابع: "أصبحت المساعدات تجارة"، مشيرة إلى أن غياب وسائل الاتصال كالهاتف والإنترنت حرم آلاف الأسر من الوصول إلى الخدمات الإلكترونية.

وتتساءل بحرقة: "ما ذنب نازحة لديها ستة أطفال أن تدفع 100 شيكل فقط ليتم تسجيل اسمها؟ بعضهم يدفع ولا يظهر اسمه أصلًا"، متهمةً بعض المندوبين باحتكار القرار وتوزيع المساعدات حسب المزاج والانتماء العائلي أو الجغرافي.

غياب رسمي

وحول دور مؤسسات المجتمع المحلي في مراقبة توزيع المساعدات والتبرعات، في ظل الغياب شبه الكامل للجهات الرسمية بغزة، قال مدير شبكة المنظمات الأهلية في القطاع، أمجد الشوا، خلال إحدى المقابلات الصحفية: "المؤسسات الأهلية كانت المستجيب الأول لاحتياجات الناس منذ بداية العدوان على غزة، وقدمت مختلف الخدمات للنازحين"، مشيرًا إلى أن الشبكة تعمل على استنهاض دور المؤسسات، ومتابعة عملها من خلال جهد كبير يُبذل لتعزيز عدالة توزيع المساعدات في ظل قلتها، وتفادي التداعيات الخطيرة لعدم وجود عدالة في التوزيع.

وأضاف: "نحرص على وصول المساعدات لمستحقيها بناءً على الفئات الأكثر احتياجًا في مختلف المناطق: النساء والأطفال والمسنين والمرضى والأشخاص ذوي الإعاقة".

وكان الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، أصدر دليلًا لمنع الفساد في المساعدات الإنسانية وقت الطوارئ، أكد فيه أن الاستجابة يجب أن تقوم على أسس: الحياد، والشفافية، والمساءلة، دون النظر إلى الانتماءات السياسية أو المناطقية أو العلاقات الشخصية. مع ذلك، تؤكد الشهادات الميدانية، والمقابلات التي أجرتها "نوى"، أن هذه المبادئ غالبًا ما تُنتهك، في ظل انتشار المحسوبية، والتمييز بين المخيمات، وعدم تكافؤ فرص الحصول على الدعم.

يُحذّر دليل "أمان" من المحسوبية وتكرار التسجيل للمستفيدين، ويوصي بقاعدة بيانات وطنية موحدة، ومدونة سلوك للعاملين في التوزيع، مع آليات واضحة لتقديم الشكاوى.

ويُحذّر الدليل من المحسوبية وتكرار التسجيل للمستفيدين، ويوصي بقاعدة بيانات وطنية موحدة، ومدونة سلوك للعاملين في التوزيع، مع آليات واضحة لتقديم الشكاوى، إلا أن الشكاوى، كما يروي المتضررون، غالبًا ما تقابل بالتجاهل.

تقول لينا مثلًا: "قدّمت طلبًا، لكن لا أحد يرد. لا أحد يسأل عنك بعد أن يخذلك"، في وقتٍ وصف فيه أحد المندوبين العاملين في التوزيع (وفضّل عدم ذكر اسمه)، بعض مراكز الطهي المجتمعي بأنها "تُدار لأجل التصوير، لا لسد الاحتياج الحقيقي".

هيكل تنظيمي وقاعدة بيانات وطنية

وبرغم أن دليل "أمان" يخصص فصلًا كاملًا للفئات الضعيفة، من نساء معيلات وأسر الأيتام، إلا أن الواقع لا يعكس أي اهتمام بذلك. حالة لينا مراد مثال واضح: "خيمة فقط، بدون غذاء".

ويضع الدليل تصورًا واضحًا لإدارة المساعدات خلال الطوارئ، تبدأ بوجود هيكل تنظيمي واضح وموحد؛ لإدارة العملية الإغاثية تحت إشراف رسمي وبتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني، وبما يضمن عدم الازدواج، كما يوصي بضرورة إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة تشمل أسماء المستفيدين وتحديث أوضاعهم باستمرار، فتمنع التسجيل المكرر لنفس العائلات في أكثر من مركز توزيع.

البند الأخير تحديدًا، يتقاطع بوضوح مع انتقادات مندوب التوزيع المذكور، إذ أشار إلى أن بعض العائلات تسجل نفسها في أكثر من مخيم وتحصل على مساعدات مضاعفة، في حين تُحرم أخرى تمامًا بسبب غياب "الواسطة".

ويشدد الدليل أيضًا على اعتماد مدونة سلوك للمندوبين والعاملين في توزيع المساعدات، تلزمهم بالحياد والموضوعية، وتمنع قبول أي امتيازات أو التعامل بمعايير شخصية. كما ينص على أهمية وجود آليات لتقديم الشكاوى تضمن حماية المبلّغين والمستفيدين من الانتقام أو التهميش، وهو ما غاب في كثير من الحالات -وفق عدة نازحين تحدثنا إليهم- حيث أشاروا إلى محاولات متعددة للتواصل مع مؤسسات لم تستجب أو اكتفت بالوعود، دون تمكين المستفيدين من متابعة الشكوى أو الاعتراض على التجاهل.

يوصي دليل "أمان" بضرورة تعزيز الرقابة على سلاسل الإمداد، بما في ذلك فرض آليات تدقيق مالي واضحة على المشتريات، ومتابعة حركة التخزين والتوزيع، وتنفيذ زيارات مفاجئة لمراكز التوزيع.

على الصعيد اللوجستي، يوصي دليل "أمان" بضرورة تعزيز الرقابة على سلاسل الإمداد، بما في ذلك فرض آليات تدقيق مالي واضحة على المشتريات، ومتابعة حركة التخزين والتوزيع، وتنفيذ زيارات مفاجئة لمراكز التوزيع؛ لمراقبة سير العملية ميدانيًا. وهذا ما يغيب اليوم في كثير من التكيّات والمطابخ المجتمعية، التي وصفها مندوب التوزيع ذاته، بأنها "بيئة خصبة للفوضى والاستغلال" على حد وصفه.

ويخصص الدليل فصلًا كاملًا للحديث عن الفئات الأكثر ضعفًا، لا سيما النساء المعيلات وأسر الأيتام، ويؤكد ضرورة تخصيص آليات استهداف حساسة للنوع الاجتماعي. غير أن شهادات ميدانية عديدة كشفت فجوةً في هذا الجانب، لينا مراد من بين أصحابها.

تقول لينا: "قدّمت طلبًا، لكن لا أحد يرد. لا أحد يسأل عنك بعد أن يخذلك"، ويقول مندوب توزيع عن بعض مراكز الطهي المجتمعي: "تُدار لأجل التصوير، لا لسد الاحتياج الحقيقي".

ويختتم "أمان" دليله بجملة من التوصيات، يؤكد مُعِدّوه أنّ بإمكانها -في حال تطبيقها بفعالية- أن تساهم في منع التجاوزات المنتشرة حاليًا، ومن بينها: "إطلاق بوابات إلكترونية موحدة للتسجيل، ونشر معلومات دورية عن حجم ونوع المساعدات ومواقع التوزيع، وإشراك المجتمع المحلي في مراقبة الأداء مع نشر آليات واضحة لتقديم الشكاوى".

وبخصوص الشكاوى، يروي عشرات المتضررين -ممن تحدثوا لـ"نوى" وفضلوا عدم ذكر أسمائهم- غالبًا ما تقابل بالتجاهل. تقول لينا مثلًا: "قدّمت طلبًا، لكن لا أحد يرد. لا أحد يسأل عنك بعد أن يخذلك"، في وقتٍ قال فيه مندوب التوزيع عن بعض مراكز الطهي المجتمعي -وفق معايشاته- بأنها "تُدار لأجل التصوير، لا لسد الاحتياج الحقيقي".

وبرغم أن دليل "أمان" يخصص فصلًا كاملًا للفئات الضعيفة، من نساء معيلات وأسر الأيتام، إلا أن الواقع لا يعكس ذلك. حالة لينا مراد مثال واضح: "خيمة فقط، بدون غذاء".

"من اليوم الأول"

وفي مقابلةٍ لـ"نوى" مع مدير المنتدى الاجتماعي التنموي، محمود الزنط، أوضح أن مؤسسته أطلقت برنامج الاستجابة الطارئة في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر 2023م، ضمن مسؤوليتها المجتمعية وجهودها الإنسانية الطارئة، وبالشراكة مع جهات محلية ودولية.

وقال: "البرنامج شمل توفير احتياجات لوجستية عاجلة، منها الخيام، والفرش، والبطانيات، والأطعمة (المعلبات والخضروات)، بالإضافة إلى الأدوات الشخصية ومستلزمات النظافة"، مشيرًا إلى أن الاستجابة بدأت منذ اليوم الأول للحرب، من خلال تشكيل مجموعات واسعة من المتطوعين في مختلف محافظات القطاع".

ولفت إلى أن المنتدى طوّر نظامًا خاصًا أطلق عليه اسم "خدمة المستفيدين"، وهو نظام يعتمد على خوارزميات ذكية تأخذ بعين الاعتبار معايير متعددة، أهمها: عدد أفراد الأسرة، وحالة النزوح، والفئات الأكثر هشاشة، والأسر التي تعيلها نساء، وتلك التي تضم أشخاصًا من ذوي الإعاقة، مؤكدًا أن هذا النظام يساعد على تحديد سرعة الاستجابة ومكان التوزيع بدقة، بما يضمن عدالة التوزيع وفاعلية التدخل.

وعلى صعيد العلاقة مع المواطنين، أشار الزنط إلى أن المنتدى استخدم عدة أدوات تفاعلية، أبرزها: وسائل التواصل الاجتماعي (بكافة صفحات المنتدى)، وقناة "واتساب" مخصصة لتلقي الطلبات، بالإضافة إلى فرق المسح الميداني عبر "شبكة الشباب، معقبًا: "نتعامل مع طلبات المواطنين حسب الحاجة. إذا كان المستفيد يطلب أكثر من غرض، نحاول توفيره حسب الإمكانيات المتوفرة. كوننا مؤسسة محلية، مواردنا محدودة أحيانًا، لذا نستجيب أحيانًا لطلب واحد فقط".

"نعمل على رقمنة إدارة المستخدمين بهدف تقليل التكرار في التوزيع، وتحسين فعالية التوصيل، توثيق الإجراءات بدقة".

وبيّن الزنط أن المنتدى يعتمد أيضًا على الشراكة مع مؤسسات محلية تزوده بقوائم إضافية من المستفيدين، ويعتمد على هذا التكامل لضمان الشفافية وتوسيع قاعدة التوزيع. كما أشار إلى العمل على رقمنة إدارة المستخدمين بهدف تقليل التكرار في التوزيع، وتحسين فعالية التوصيل، وتوثيق الإجراءات بدقة أكبر.

ونبّه إلى وجود قسم مخصص في المنتدى لاستقبال المناشدات والشكاوى ضمن وحدة المتابعة والتقييم، حيث يتم التعامل معها بجدية، بهدف البناء عليها وتطوير الأداء الميداني، مردفًا: "الاستماع للناس جزء من الاستجابة.. نحاول تحويل كل ملاحظة أو شكوى إلى مدخل لتحسين عملنا الميداني".

ويقدر عدد سكان قطاع غزة الحالي بنحو 2.1 مليون شخص، من هؤلاء، يُصنف 1.9 مليون شخص (حوالي 90% من السكان) كنازحين داخليًا، مع نزوح متكرر لبعضهم حتى 10 مرات.

ومنذ إغلاق "إسرائيل" معابر القطاع بشكل كامل مطلع مارس/ آذار الماضي، بات أكثر من (96٪ من السكان) يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد، في وقتٍ شدّد فيه برنامج الأغذية العالمي على ضرورة دخول 500 شاحنة يومية -على الأقل- لتغطية الاحتياجات.