غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
ينظر الشاعر والكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة لفوزه بجائزة "بوليتزر"، أرفع الجوائز الصحفية والأدبية في الولايات المتحدة الأمريكية للتعليق الصحفي لعام 2025م، على أنه إنجاز تاريخي للقضية الفلسطينية، وانتصار لضحايا الحرب الإسرائيلية المستعرة في عامها الثاني على قطاع غزة.
وفاز أبو توهة بهذه الجائزة المرموقة عن سلسلة مقالات مؤثرة نشرها في مجلة "نيويوركر" الأمريكية، توثق معاناة الغزيين خلال الحرب، وتركز على الدمار الجسدي والنفسي الذي لحق بهم، ومزج فيها بين التحقيق العميق والسرد الشخصي، من خلال الفترة التي عايشها تحت القصف والدمار والنزوح قبل تمكنه من مغادرة غزة للولايات المتحدة برفقة أسرته الصغيرة.
"من هو مصعب أبو توهة؟" سألته "نوى"، فأجاب: "كاتب فلسطيني، ولدتُ عام 1992م في مخيم الشاطئ بمدينة غزة، لعائلة هجرت من مدينة يافا إبان نكبة العام 1984م، وترعرعت في مدينة بيت لاهيا شمالي القطاع".
وتابع باستفاضة: "كتبت المقال والشعر والقصة ولعبت كرة القدم، وما زلتُ شغوفًا بسماع القصص عن جدي حسن، الذي طرد من يافا وعاش ومات في مخيم الشاطئ قبل أن أولد. لا أزال ألملم حجارة بيت جدي لأكتب بها حكاية المخيم؛ لنعود معًا إلى يافا ونزرع البرتقال ونشاهد أفلامًا جديدة في سينما الحمراء، يصنعها أحفادنا وربما نحن أيضًا".
حصل أبو توهة على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من الجامعة الإسلامية عام 2014م، وأكمل دراسة الماجستير في الكتابة الإبداعية في جامعة "سيراكيوز" بنيويورك الأمريكية.
وقد أسس في العام 2017 "مكتبة إدوارد سعيد" العامة في غزة، وهي أول مكتبة بالإنجليزية في القطاع. وعام 2022م، أصدر مجموعته الشعرية الأولى بنفس اللغة بعنوان: "أشياء قد تجدها مخبأة في أذني: قصائد من غزة"، التي حصلت على جائزة الكتاب الأمريكي، وجائزة الكتاب الفلسطيني، وكانت ضمن القائمة النهائية لجائزة النقاد الأمريكيين.
"لا يمكن للعالم أن يغض الطرف أكثر من هذا عن القصة والقصيدة الفلسطينيتين، خاصة التي تخرج من غزة هذه الأيام. وأضيف هنا الصورة، إلى جانب الكتابة".
وعن فوزه بجائزة "بوليتزر"، يقول: "هي محطة مهمة في مسيرتي الشخصية والكتابية، وإنجاز للقصة الفلسطينية. لا يمكن للعالم أن يغض الطرف أكثر من هذا عن القصة والقصيدة الفلسطينيتين، خاصة التي تخرج من غزة هذه الأيام. وأضيف هنا الصورة، إلى جانب الكتابة، فقد تُوّج هذا العام والذي سبقة مصورون بجوائز عالمية يجدر الاحتفاء بها".
وجاء فوز أبو توهة بهذه الجائزة عن أربع مقالات نشرها العام الماضي في مجلة "نيويوركر"، تناول مقالًا منها التجويع، والمقال الثاني عن "معنى السفر لي كفلسطيني من غزة"، وتعرضه لتجارب سيئة في المطارات كونه فلسطيني من غزة.
أما المقال الثالث، فيوضح أبو توهة أنه تناول ما "تركته ورائي في غزة وقت خروجي منها في ديسمبر 2023م"، "ليس فقط الأهل والبيت المدمر بل أيضًا كل ما كوّنته من ذكريات في مخيم الشاطئ وبيت لاهيا ومخيم جباليا.. أساتذتي وطلابي، مكتبتي الشخصية ومكتبة إدوارد سعيد بفرعيها التي أسستهما وتم تدميرهما خلال الأشهر المنصرمة".
والمقال الرابع كان عن مخيم جباليا، ويقول: "عشت في هذا المخيم وقتًا حيث بيت جدي لوالدتي. لجأتُ فيه وفي مدارسه قبل سفري. ماذا يعني أن تشاهد مخيم لاجئين يتم محوه؟ ماذا يعني أن يحلم اللاجئ بالعودة ليس ليافا بل لمخيم جباليا وغيره؟".
عايش أبو توهة أهوالًا من الحرب قبل مغادرة غزة، ويقول آثرت وعائلتي البقاء في الشمال، لمعرفتنا بظروف النزوح جنوبًا ومآلاته، "حيث لا بيوت تكفي العائلات ولا ملابس ولا فُرش ولا كتب، غير أننا اضطررنا للنزوح مرارًا داخل مناطق شمالي القطاع".
"كان ثمة مسعف يحاول إنقاذ طفلة داخل سيارة الإسعاف. شابان يحملان بطانية تحمل جسدًا من دون رأس. والناس تجري، لا تعرف إلى أين!".
"نزحنا أولًا إلى مخيم جباليا، حيث ولدت أمي وترعرعت. وفيه لا يزال يسكن جدي وبعض أخوالي وخالاتي. وقد توفي جدي طلال في نيسان/ إبريل الماضي في المخيم، حيث ظل يرفض مغادرته رغم قصف منزله ذي السبعين مترًا مربعًا في ثالث شهور الحرب"، يروي أبو توهة.
ومع اشتداد القصف، والمجزرة المروعة التي أبادت مربعًا كاملًا في المخيم، نهاية أكتوبر 2023م، اضطر أبو توهة وعائلته للنزوح في مدرسة. "كان ذلك الاستهداف الأكثر رعبًا في حياتي (..) كان يومًا مهولًا"، يصف أبو توهة، ويكمل: "خرجتُ أبحث عن المكان المستهدف، وإذ به يبعد عنا نحو 500 متر فقط. كان ثمة مسعف يحاول إنقاذ طفلة داخل سيارة الإسعاف. شابان يحملان بطانية تحمل جسدًا من دون رأس. والناس تجري، لا تعرف إلى أين! الغبار والركام لا يزالان يسقطان من السماء. أمٌ وأطفالها يصرخون، تستجديني الأم: "زوجي تحت الأنقاض، طلعوه".

يحمل مصطفى، أحد أبناء أبو توهة الثلاثة، الجنسية الأمريكية، وفي منتصف نوفمبر عام 2023م، يقول: "ظهرت أسماؤنا على قائمة المسافرين عبر معبر رفح البري. وتأخر تحركنا من الشمال للجنوب، حيث المعبر، بسبب خطورة الطريق".
"في صباح 19 من ذلك الشهر، ومع اشتداد القصف، يخبرنا: "قررتُ وزوجتي حمل أمتعتنا وأطفالنا والتوجه جنوبًا، وكنت حزينًا جدًا لأنني سأترك والدي وأشقائي وأطفالهم. لم تكن هناك وسائل مواصلات، لكن كان نصيبنا أن نجد عربة يجرها حمار".
عند "دوار الكويت" حيث يتجمع النازحون نحو الجنوب، ينتظرون إشارة من دبابة إسرائيلية، وعندما حان دورنا، ودخلنا عبر بوابة في منتصف شارع صلاح الدين، كان جنود يصوبون فوهات بنادقهم نحونا، ولاحظت أنهم ينادون على بعض الأشخاص -ممن سبقونا- بوصف ملابسهم وما يحملون.
"حققوا معي ميدانيًا. لكمني المحقق على وجهي، وسط شتائم لن أنساها أبدًا، ونقلوني مع آخرين إلى جهة مجهولة، والقلق يعتصرني: "هل أهلي بخير في الشمال؟ هل زوجتي وأطفالي بخير؟".
يضيف أبو توهة: "لم يخطر ببالي أن ينادوا عليّ: الشب اللي لابس جاكيت أسود وشنطة سودا وحامل ولد لون شعره أحمر. نزّل الولد والأغراض وتعال هون. كان ذلك الشاب أنا (..) أجبروني على خلع ملابسي كاملة، وقيدوني من الخلف، وعصبوا عيني".
ويزيد: "حققوا معي ميدانيًا. لكمني المحقق على وجهي، وسط شتائم لن أنساها أبدًا، ونقلوني مع آخرين إلى جهة مجهولة، والقلق يعتصرني: "هل أهلي بخير في الشمال؟ هل زوجتي وأطفالي بخير؟ هل وصلوا الجنوب أم وقفوا ينتظرونني بعد الحاجز بقليل؟".
في اليوم الثاني، يقول أبو توهة: "تم التحقيق معي مساء. بعد خروجي من غرفة التحقيق وقبل نقلي لمركز الاحتجاز مع الآخرين، فاجأني جندي بالإنجليزية: نعتذر عن الخطأ، سوف ترجع إلى البيت (..) لم أكن لأصدق ذلك".
"نظرت إلى لافتة معلقة على بوابة المعبر: (أهلًا وسهلًا بكم في فلسطين)، عبَرَت في ذهني مئات الصور، عن الجغرافيا التي تُمحى كل يوم. وقلت في نفسي: سأعود يومًا إلى منزلي المدمر في غزة ومنزل جدي في يافا.
في اليوم الثالث، نادى الجندي المسؤول اسمي. بدأت الرحلة إلى المربع الأقسى. إلى طريق صلاح الدين حيث اختُطِفت. والبحث عن زوجتي وأطفالي في دير البلح، ورحلة الاطمئنان على عائلتي الكبيرة في شمالي غزة. "هل فقدت أحدًا؟" كان طوال الوقت يسأل نفسه.
يقول أبو توهة: "قضيت ما يقارب الساعتين أبحث عن زوجتي مرام وأطفالي يزن ويافا ومصطفى، إلى أن دلني أحد الشبان في الشارع على المدارس التي نزح إليها سكان بيت لاهيا".. "بعد عشرة أيام خرجنا من غزة. نظرت إلى لافتة معلقة على بوابة المعبر: (أهلًا وسهلًا بكم في فلسطين)، عبَرَت في ذهني مئات الصور من فلسطين، من غزة بالتحديد، الجغرافيا التي تُمحى كل يوم. وقلت في نفسي: سأعود يومًا إلى منزلي المدمر في غزة ومنزل جدي في يافا.
