طلبة غزة.. "المجاعة" أغلقت الكُتب وقرصَت "القلوب"!
تاريخ النشر : 2025-05-20 09:05

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

بوصفٍ بالغ القسوة، تقول مرح القاضي: "أشعر أن جسدي يأكل بعضه"، وتشرح: "صوت "قرقرة" معدتي من شدة الجوع، يصيبني بالصداع، لقد وصلت إلى حافة اليأس، وقد فقدت القدرة على التركيز، وأعاني من صعوبة في الدراسة".

مرح (18 عامًا) طالبة في الثانوية العامة (التوجيهي)، وقد تركت المجاعة أثرها البالغ عليها نفسيًا وجسديًا، تخبرنا: "كنت أدرس بمعدل 5 ساعات يوميًا، غير أنني بت أشعر بالدوخة والصداع بمجرد أن أمسك بالكتاب، وأفقد القدرة على الدراسة ولو لساعة واحدة باليوم (..) أتحدث عن وضعٍ أعيشه منذ شهرين تقريبًا".

تشير مرح بحديثها هذا إلى تأثرها بالمجاعة المستشرية التي تفتك بالغزيين، نتيجة الحصار المشدد وإغلاق الاحتلال للمعابر منذ 2 مارس/آذار الماضي، وما تبعه من استئناف للحرب في 18 من الشهر ذاته، حتى بات زهاء مليونين و200 ألف فلسطيني في قطاع غزة يواجهون الموت، قتلًا وجوعًا، في كل لحظة.

وكأثر جسدي لهذه المجاعة فقدت مرح 4 كيلوغرامات من وزنها، وتقول: "الأثر النفسي كان أشد وقعًا، أشعر أنني أفقد الرغبة في الحياة شيئًا فشيئًا، بسبب الخوف والجوع.. نحن نواجه الموت بكل أشكاله وألوانه".

وتقيم مرح مع أسرتها (7 أفراد) في منزلها المدمر جزئيًا غربي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، وتتساءل: "الموت يتربص بنا على مدار الساعة، وبتنا نفكر في النجاة اللحظية ولا نأمن أن نبقى على قيد الحياة لدقيقة أخرى، فكيف لنا أن نفكر وندرس؟".

تتناول مرح وأسرتها وجبة واحدة يوميًا، وهي عبارة عن القليل من المعكرونة أو العدَس، ومنذ نحو شهرين لا يتوفر لدى هذه الأسرة الدقيق لصناعة الخبز، وسط إغلاق غالبية المخابز التي كان يدعمها برنامج الأغذية العالمي.

تتناول مرح وأسرتها وجبة واحدة يوميًا، وهي عبارة عن القليل من المعكرونة أو العدَس، ومنذ نحو شهرين لا يتوفر لدى هذه الأسرة الدقيق لصناعة الخبز، وسط إغلاق غالبية المخابز التي كان يدعمها برنامج الأغذية العالمي، وارتفاع سعر كيس الدقيق زنة 25 كيلو غرامًا، ليتراوح بين 1800 و2200 شيكل، فيما سعره الحقيقي لا يزيد في الوضع الطبيعي على 50 شيكلًا، علاوة على أسعار باقي السلع والخضروات الشحيحة في الأسواق، التي تصفها مرح بالجنونية، ولا تقوى عليها الأغلبية ممن فتكت بهم الحرب وأفقدتهم أعمالهم ومدخراتهم.

وتدهورت الحالة الصحية لصفاء (39 عامًا)، والدة مرح، جراء سوء التغذية، وهي التي تعاني من مشكلة بالقلب وخضعت بسببها سابقًا لعملية جراحية. تخبرنا مرح: "تضاعفت معاناة أمي مع مرض شقيقي الصغير زين (3 أعوام ونصف) بضعف النمو جراء سوء تغذية حاد حسبما أظهرت الفحوص الطبية والمخبرية، ولا تتوفر المكملات في المستشفيات والمراكز الصحية لتعويضه عن قلة الطعام".

"كيف لي أن أركز في دراستي مع قرصات الجوع، والشعور الدائم بالخوف وعدم اليقين بالنجاة مع كل انفجار (..) يكاد عقلي يتوقف عن التفكير.. أنا طالبة متفوقة وأحلم بدراسة الطب.. لكن".

"يتقطع قلب أمي، وأشاهد الحسرة في عيني والدي، على بكاء زين، الذي تعلم الكلام خلال الحرب، وأكثر ما يردده هذه الأيام: بدي آكل .. أنا جعان، وكنا في ذلك اليوم قد تناولنا شوربة العدس فقط طوال النهار"، تقول مرح.

هذه هي الأجواء المحيطة بمرح قبل أسابيع قليلة على موعد امتحانات الثانوية العامة، المقررة الشهر المقبل، ومن غير المؤكد أن يلتحق بها طلبة غزة جراء تداعيات الحرب وتصاعد وتيرتها، وتتساءل: "كيف لي أن أركز في دراستي مع قرصات الجوع، والشعور الدائم بالخوف وعدم اليقين بالنجاة مع كل انفجار".

وتقول: "يكاد عقلي يتوقف عن التفكير.. أنا طالبة متفوقة ومعدلي في الصف الأول الثانوي قبل الحرب مباشرة كان 98%، ولم ندرس شيئًا في الثاني الثانوي، ورغم أن التوجيهي كان حلمي كبوابة للجامعة، ودراسة الطب، إلا أنني أشعر بفقدان الشغف، ويسيطر علي اليأس، وأتحسس الموت يقترب مني".

وكما مرح وأسرتها، وغالبية الغزيين، لا يتوفر الدقيق لدى أسرة الطالب فتحي الحج أحمد المكونة من (9 أفراد)، والنازحة من مدينة رفح وتقيم في خيمة بمدينة خان يونس المجاورة، ويقول لـ"نوى": "إن نصيب كل شخص في الأسرة رغيف واحد يأكله على وجبتين في اليوم، صباحًا ومساءً".

وليس لدى هذه الأسرة أي طعام يؤكل في خيمتها المتهالكة، وتعتمد كليًا على ما توفره واحدة من التكايا الخيرية القليلة التي لا تزال تعمل بالحد الأدنى، فيما اضطرت البقية على إغلاق أبوابها لعدم توفر المواد الغذائية، بما في ذلك مطابخ مجتمعية تابعة لهيئات محلية ودولية.

وإذا ما عاند الحظ هذه الأسرة ولم تحظَ بنصيبها من التكية فإنها تصوم يومها، وقد تكرر ذلك مرارًا، وحسبما يقول فتحي: "الزحام شديد على التكية، وكثيرًا ما نعود بأوانٍ فارغة ولا نجد ما نأكله".

"95% من طلبة المدرسة يأتون جوعى وبدون تناول أي طعام، الأمر الذي انعكس على قدراتهم الدراسية، وأدى إلى فقد التركيز، وكذلك الحال بالنسبة للمعلمات المتطوعات اللواتي يعانين من المجاعة وسوء التغذية".

وانعكس هذا الواقع المرير على قدرة فتحي (17 عامًا) على مراجعة دروسه والاستعداد لامتحانات الثانوية العامة، حيث انخفض وزنه منذ إغلاق المعابر من 79 إلى 65 كيلوغرامًا، وفقد القدرة على التركيز، وانخفضت ساعات دراسته اليومية من 9 ساعات يوميًا إلى أقل من 3 ساعات فقط.

مرح وفتحي يذهبان بجوعهما إلى مدرسة مجانية، بغية المحافظة على الحد الأدنى من متابعة دروسهما، وفي حديثها لـ "نوى" تقول أحلام عبد العاطي مديرة هذه المدرسة المقامة من الخيام على مقربة من مجمع ناصر الطبي: "إن 95% من طلبة المدرسة يأتون جوعى وبدون تناول أي طعام، الأمر الذي انعكس على قدراتهم الدراسية، وأدى إلى فقد التركيز، وكذلك الحال بالنسبة للمعلمات المتطوعات اللواتي يعانين من المجاعة وسوء التغذية".

وبدورها، تشخص رئيس قسم التغذية العلاجية في مستشفى العودة بالنصيرات الدكتورة رنا زعيتر، ما يشعر به الطلبة نتيجة الجوع الشديد، وتقول لـ "نوى": "المجاعة تتسبب بالضعف الجسدي العام، ولها آثار واضحة كالصداع والشعور بالجفاف، وفقدان القدرة على التركيز والدراسة والحفظ، إضافة إلى القلق وقلة النوم".

ولا يقتصر تأثير المجاعة على الصحة الجسدية، وبحسب الدكتورة رنا فإن لها آثارًا سلبية على الصحة النفسية، نتيجة الخلل في الهرمونات، ويؤدي ذلك إلى الضغط النفسي، علاوة على نقص الفيتامينات في الأغذية المعلبة التي باتت أساس طعام الغزيين، وفي الوقت نفسه غير متوفرة في الأدوية المفقودة من الصيدليات والمستشفيات.

وتضيف الدكتورة رنا: "ذلك كله ينعكس على سلوك الإنسان، وقد يدفعه إلى العدوانية والعصبية الزائدة، وردود الفعل غير المحسوبة، وربما يصاب البعض باليأس وعدم الرغبة في الحياة".