دراجة "سمية".. إرث "الشهيد" يطعم عائلة!
تاريخ النشر : 2025-05-12 17:12

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"والله كفو عليكِ"، تسمعها سمية الشريف فتلامس قلبها المتعب من مشاق الحياة، وتتجاوز بها نظرات البعض التي تلاحقها باستغرابٍ أحيانًا، وبالانتقاد في مرات كثيرة.

فتاة تقود دراجة هوائية، وتسعى يوميًا لتوفير الاحتياجات الأساسية لأسرتها النازحة في مدرسةٍ بمخيم جباليا شمالي قطاع غزة. بعد استشهاد شقيقيها في حادثين منفصلين خلال الحرب الإسرائيلية المستعرة على القطاع في عامها الثاني، وجدت سمية (17 عامًا) نفسها مضطرة لـ "خلع رداء الطفولة"، وخوض غمار العمل مبكرًا.. متجاوزةً أي مخاطر، أو انتقادات.

تقول لـ "نوى": "لم يسبق لي العمل من قبل، ولكن الحياة القاسية بسبب الحرب والحصار والمجاعة، لم تترك لي أي خيار آخر".

وسمية، ليست استئناءً في زمن الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة التي عبثت بالسلوكيات المجتمعية، والعادات والتقاليد كلها، تمامًا كما عبثت بالأرواح، أو ربما أشد فتكًا، حيث أجبرت آلاف الأطفال، وبينهم فتيات، على العمل في "أعمال شاقة" يوميًا، ومكابدة الصعب من أجل البقاء وأسرهم على قيد الحياة.

قبل اندلاع الحرب في قطاع غزة، بتاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023م، كانت سمية تعيش حياة طبيعية وسط أسرتها الصغيرة المتواضعة، المكونة من (5 أفراد).

"كنت طالبة بالمدرسة، أختزن في داخلي الكثير من الأحلام والأمنيات للمستقبل، وفجأة وجدت نفسي مع أسرتي مشردين نازحين وبلا مأوى وقد خسرنا كل شيء".

تخبرنا: "كنت طالبة بالمدرسة، أختزن في داخلي الكثير من الأحلام والأمنيات للمستقبل، وفجأة وجدت نفسي مع أسرتي مشردين نازحين وبلا مأوى وقد خسرنا كل شيء".

وتضيف بلسانٍ يرتجف، وعيونٍ شاردة حزينة: "استشهد شقيقاي، ودمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزلنا المكون من 4 طبقات في منطقة بئر النعجة بمعسكر جباليا، وخسر والدي سيارته التي كان يعمل عليها ويكسب منها قوتنا، واضطررنا للنزوح في الأيام الأولى للحرب".

لجأت هذه الأسرة لواحدة من المدارس التي تحولت لمركز إيواء في مخيم الشاطئ، غربي مدينة غزة، وتنقلت من مكان إلى آخر لأكثر من 10 مرات، بحثًا عن أمانٍ مفقود، حتى استقر بها الحال حاليًا في مركز إيواء بجباليا شمالي القطاع.

يسبق يوم سمية شروق الشمس، تستيقظ مبكرًا، وتبدأ نهارها بتلمس احتياجات أسرتها وتأمينها، وتقول: "أقوم بتعبئة المياه ونقلها للطابق الثالث من المدرسة التي تؤوي أسرتي وآلاف النازحين الآخرين، وأُعد ما تيسر من طعام، قبل أن أنطلق بدراجتي في رحلة البحث عن الرزق".

 

تعود هذه الدراجة لشقيقها الشهيد، وبمشقة شديدة نجحت سمية في انتشالها من تحت أنقاض منزلها المدمر، ولا تنكر مشاعر مختلطة من الخجل والتردد تملكتها في أول مرة قررت بها قيادة الدراجة والانطلاق بها في الشوارع وبين العامة، ولكنها في الوقت نفسه كان لديها الكثير من الإصرار والتحدي للظروف القاسية، وحتى العادات والتقاليد، من أجل مساعدة أسرتها في ظل المجاعة.

لم يدر في خلد سمية، حينما قادت الدراجة فكرة تحدي نظرة المجتمع.. "هذا ليس في الحسبان تحت النار أبدًا"، بل اضطرت لذلك -وفق تأكيدها- في ظل أزمة المواصلات الحادة، وارتفاع أجرة المواصلات أضعافًا مضاعفة، ولقطع مسافة كانت تكلف شيكلًا واحدًا تحتاج حاليًا إلى خمسة شواكل وأكثر.

اعتلت سمية الدراجة وانطلقت بها من جباليا إلى مدينة غزة، ترقبها أعين المارة، بينما تشقُّ طريقها بين الشوارع والأزقة والدمار. تزيد: "الكثير من نظرات الاستهجان والاستغراب تتحول إلى إعجاب وتشجيع عندما يعلمون أنني المسؤولة عن رعاية أسرتي، وأقود الدراجة من أجل العمل وليس للعب".

وتقصد هذه الفتاة المثابرة مدينة غزة بدراجتها الهوائية كلما وجدت أن بسطتها الصغيرة التي تقيمها داخل مركز الإيواء قد فرغت من السكاكر، وهي منتجات صغيرة ومتنوعة يقبل الأطفال على شرائها، في ظل عدم توفر الكثير من الخيارات أمامهم، جراء الحصار المشدد الذي تفرضه قوات الاحتلال منذ الثاني من مارس/آذار الماضي، وتمنع دخول المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية.

تكتفي سمية بربح قليل يساعدها في توفير الاحتياجات الضرورية لأسرتها، وعلى الرغم من صغر عمرها إلا أنها تبدي الكثير من التعاطف مع الناس والأطفال النازحين، وتقول: "الوضع صعب على الجميع ولازم نراعي بعضنا البعض".

أخصائية نفسية: "الحرب أجبرت الأطفال على العمل المبكر، والقيام بأعمال شاقة لا تناسب أعمارهم، وحتى أجساد الكبار تنوء بها ولا تقوى عليها".

وتضع أستاذة الصحة النفسية الدكتورة آمنة حمد، حكاية الطفلة سمية، في سياق مسلسل من المعاناة فرضته الحرب على أطفال غزة، وتقول لـ "نوى": إن "الحرب أجبرت الأطفال على العمل المبكر، والقيام بأعمال شاقة لا تناسب أعمارهم، وحتى أجساد الكبار تنوء بها ولا تقوى عليها".

"في الحرب، يفقد الطفل سنوات مهمة من طفولته التي تؤسس لشخصيته، بما يميزها من حقوقه باللعب والتعليم، وما يرفق ذلك من حرمان وشعور بعدم الاتزان العاطفي".

ولهذه الأعمال –بحسب الدكتورة آمنة- انعكاسات سلبية على الصحة النفسية والجسدية للأطفال، وأخطرها ما تسمى "الطفولة المسروقة"، حيث يفقد الطفل سنوات مهمة من طفولته التي تؤسس لشخصيته، بما يميزها من حقوقه باللعب والتعليم، وما يرفق ذلك من حرمان وشعور بعدم الاتزان العاطفي.

وتقول الدكتورة آمنة: "ظروف الحياة القاسية التي فرضتها الحرب على الأطفال في غزة، خاصة الفتيات، تجعلهم عرضة للاستغلال، وتحرمهم الحماية القانونية كأطفال".