غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
من بين مشاهد مؤلمة كثيرة مرت بالغزيين خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة للعام الثاني على التوالي، يبرز مشهد الصحفي الشهيد أحمد منصور والنار تلتهمه، بينما هو جالس على كرسيه لا يحرك ساكنًا، داخل خيمةٍ تحولت لكتلة من لهب، جراء غارة جوية إسرائيلية على مخيم الصحفيين الملاصق لمجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.
لم يعرف كثيرون أحمد في حياته، لكن هذا المشهد خلده في الذاكرة الفلسطينية، ولدى أحرار العالم، وقد انتشرت صور ومقاطع فيديو ورسوم كاريكاتورية له على منصات التواصل الاجتماعي، تحت وسم "الصحافة تحترق".
لم يحتمل جسد أحمد الحروق الشديدة التي أصابته، وارتقى شهيدًا بعد ساعات قليلة، ليرتفع عدد شهداء "جريمة استهداف وحرق الخيمة الصحفية" إلى 3 شهداء و10 جرحى.. لكن للحكاية تفاصيل كثيرة لم ترها العيون ولم ترصدها الكاميرات.
كان الاستهداف لخيمة في مخيم للصحفيين، حيث الكاميرات مشهرة في وضعية التفعيل للنقل المباشر على مدار اللحظة، فلم تمر الجريمة بصمت، وكان التوثيق وحده "انتصارًا" للضحية وتعرية لإجرام "إسرائيل".
أصيب عبد الرؤوف بحروق في يده أثناء محاولته سحب زميله من وسط النيران، ولا يزال يعيش وقع صدمة هذا المشهد المروع، الذي يظن أنه سيلازمه طوال حياته.
وفي جانب غير مرئي من الصورة، أظهر صحافيون شجاعة كبيرة، وقد انتصروا لإنسانيتهم على حساب أي اعتباراتٍ أخرى، وعلى رأسها كسب السبق. أحدهم كان عبد الرؤوف شعث، الذي خاطر بنفسه واندفع وسط ألسنة اللهب وأعمدة النار والدخان المتصاعدة لإنقاذ زميله منصور.
يقول لـ "نوى": "كان المشهد قاسيًا للغاية. لم أتخيل يومًا أن أكون في مثل هذا الموقف المؤلم.. النار تأكل صحفيًا وجسده يذوب أمام عيوننا".
أصيب عبد الرؤوف بحروق في يده أثناء محاولته سحب زميله من وسط النيران، ولا يزال يعيش وقع صدمة هذا المشهد المروع، الذي يظن أنه سيلازمه طوال حياته، ويتساءل: "إلى متى سنبقى نخسر كل يوم زميلًا في هذه المحرقة؟ ألسنا مثل كل الصحفيين حول العالم ونستحق الحماية؟".
ووفق توثيق نقابة الصحفيين الفلسطينيين ارتفع عدد الشهداء الصحفيين إلى 211 صحافيًا/ـة، وعشرات الجرحى، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023م.
ويشعر الصحفي النازح من مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، تامر قشطة، بعدم اليقين من نجاته وخروجه سالمًا من هذه الحرب، ويقول لـ "نوى": "أنا وكل زملائي في غزة لا نشعر بالأمان على أنفسنا وأسرنا، وقد حولتنا قوات الاحتلال إلى أهداف، ومع كل استهداف لصحفي أسأل نفسي: من المستهدف التالي؟".
"في تلك اللحظة لم أفكر طويلًا. تخليت عن كوني صحفي وتقدمت كمسعف نحو الزميل اصليح؛ حملته على كتفي حتى قسم الاستقبال والطوارئ في مجمع ناصر الطبي".
ولم يستغرق تامر سوى دقيقة واحدة لقطع المسافة بين خيمته والخيمة المستهدفة التي تعود للصحفي حسن اصليح، والتي استهدفت واحترقت قبل أن تمتد النيران لخيام مجاورة. "في تلك اللحظة لم أفكر طويلًا. تخليت عن كوني صحفي وتقدمت كمسعف نحو الزميل اصليح؛ حملته على كتفي حتى قسم الاستقبال والطوارئ في مجمع ناصر الطبي".
ووجدت شجاعة شعث وقشطة إشادة واسعة في أوساط الصحافيين/ات، الذين أثنوا على انتصارهما للإنسانية، ويقول تامر: "الصورة مهمة ولكن الحياة أهم وأسمى، وكلنا هنا قد نكون الضحية التالية".
ويحفظ الصحفي عبد الله العطار لزميله خالد شعث أنه انتبه إليه وهو ينزف خارج خيمته المجاورة للخيمة المستهدفة، واندفع نحوه وحمله للمستشفى، ويقول لـ "نوى": "عندما سقط الصاروخ أحدث دويًا كبيرًا، وشعرتُ بزلزال يفجرني من الداخل. أصبت بشظايا في البطن والساقين".
أدرك عبد الله أن أحدًا لن ينتبه إليه داخل خيمته، وسط الانشغال بالنيران التي اندلعت في الخيمة المستهدفة، وتحامل على نفسه وجروحه، وزحف إلى الخارج وهو ينزف، حتى شاهده خالد واندفع نحوه وحمله للمستشفى.
ويظن عبد الله الذي يعمل صحافيًا حرًا "فريلانسر" لصالح وكالات ووسائل إعلام عربية وأجنبية، أن الاستهداف الإسرائيلي المتكرر والممنهج للصحافيين/ات هدفه: "كتم الصوت والصورة".
ويتفق نائب نقيب الصحافيين الدكتور تحسين الأسطل مع عبد الله، فيقول لـ "نوى": "لدى الاحتلال مخطط واضح ضد الصحافيين/ات في غزة، وهذه الجرائم المتكررة تستهدف اغتيال الصحفي الفلسطيني كونه الشاهد الوحيد على حرب الإبادة الجماعية، وهو من يكشف للعالم بقلمه وصورته الجرائم المروعة التي يرتكبها الاحتلال وغالبية ضحاياها من النساء والأطفال".
ويضع الأسطل استهداف الصحافيين/ات في ذات السياق مع الاستهداف الممنهج ضد العاملين في القطاعين الإنساني والاغاثي، لغاية "إبادة الشعب الفلسطيني في غزة بكل السبل وأدوات القتل".
"محاولات إسكات الصحافة الفلسطينية لن تنجح، وسيبقى صوت الحقيقة أعلى من صوت القتل.. الصحافيون/ات هم/ـن عيون الحقيقة وضمير الضحايا وأصواتهم التي لا تموت".
وبرأيه فإن الاحتلال يريد أن يرتكب جرائم الإبادة بالقتل والتجويع والتعطيش، بصمت وبعيدًا عن عيون الصحفيين وعدسات الكاميرات والأقلام الحرة الشجاعة.
غير أن نائب نقيب الصحفيين يراهن على الصحفي الفلسطيني وشجاعته، والمهنية العالية التي أثبتها على مدار شهور الحرب الطويلة، وقد نجح بشكل مبهر في أداء رسالته المهنية والإنسانية، رغم قلة الإمكانيات والمعدات ووسائل السلامة المهنية، والحصار والقيود المشددة التي تفرضها قوات الاحتلال، التي تمنع إدخال الوفود الصحفية الأجنبية، وكل مستلزمات العمل الصحفي.
"محاولات إسكات الصحافة الفلسطينية لن تنجح، وسيبقى صوت الحقيقة أعلى من صوت القتل"، يقول الأسطل، واصفًا الصحافيين/ات بأنهم/ـن "عيون الحقيقة وضمير الضحايا وأصواتهم التي لا تموت".
