غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"ملعون، ملعون، ملعون يا عماد، لو بتفكير تبيع أو تفرط بهذا المكان" بهذه العبارة، اختتم الراحل إسحاق أبو خديجة وصيته لابنه عماد، قبل أن يفارق الحياة التي عاشها في ظل المنغصات والعراقيل الإسرائيلية داخل "خان أبو خديجة" في مدينة القدس المحتلة.
يراجع عماد على مسامع "نوى" باقي الوصية، ويكمل بنبرة فخر: "يا بني، لو جاءك مسلم أو مسيحي أو حتى يهودي، لا يملك ثمن طعامه فأطعمه ولا تأخذ منه مقابل. وإذا توسع رزقك فيه، اجعل للمسجد الأقصى نصيبًا".
لم يتوانَ عماد يومًا عن تنفيذ الوصية، وهذا ما جعل خان أبو خديجة، مقصدًا للمصلين والوافدين إلى الأقصى، خصوصًا في شهر رمضان المبارك.
يحكي العم عماد، (65 عامًا)، حكاية الخان الذي يحمل اسم عائلته كأقدم مطعم مقدسي، الذي توارقه عن والده، الذي ورثه عن أبيه، الذي أوصاه بعدم التفريط به تحت أي ظرف.
يقول: "عمر الخان يناهز 2300 عام، وهو مطمع قديم لسلطات الاحتلال التي لطالما قدمت لي عروضًا مالية ضخمة وخيالية من أجل بيعه، تجاوزت في بعض المرات مبلغ 40 مليون دولار"، مشيرًا إلى أنها (يقصد سلطات الاحتلال)، أرهقته منذ سنوات طويلة بالمخالفات اليومية تحت حجج واهية من أجل الضغط عليه، ومراكمة الديون وإثبات عجزه عن سدادها.
يقع خان أبو خديجة في طريق باب السلسلة، ويبعد عن حائط البراق ثلاثة أمتار. يمتد الطابق العلوي فيه على مساحة 300متر، وفي أسفله فتحة أرضية صغيرة تنفتح على سبعة أنفاق، نفقان من بينها يوصلان إلى المسجد الأقصى، وآخران إلى حائط البراق، وغيرهما إلى باب العمود، بينما يصل النفق الأخير الخان بكنيسة القيامة، وقد تعاقبت عليه عدة حقب تاريخية، أبرزها البيزنطية، والصليبية، والمملوكية.
ويكمل أبو خديجة حديثه: "بأظافري ومعداتي البسيطة، ولما يزيد على 30 عامًا، واصلتُ ترميم الخان سرًا والتنقيب عن أسراره، تخوفًا من ملاحقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي، التي تسعى لحرماني من الحصول على رخصة".
يفضل عماد أن يناديه الناس بـ"المؤتمن"، فهذا المطعم "جعله والدي وقف إسلامي وأنا مؤتمن عليه من جدي ووالدي، والوصية نفسها سيحملها أبنائي وأحفادي أيضًا".
وسط أجواء رمضانية مبهجة في أسواق البلدة القديمة، تفوح رائحة الأطباق المقدسية بين جدران المطعم العريق، وتداعب أنوف المارة رائحة توابل طبق المقلوبة وخضرواتها المتناثرة على الأطباق، وتغريهم حُمرة دجاج طبق المسخن، والعديد من الأطباق المقدسية التي يصنعها أبو خديجة وأبناؤه للزبائن، ويمنح منها للأسر المقدسية المتعففة، وصولًا لباحات المسجد الأقصى، والمساهمة بإفطار المرابطين بداخله.
يُتابع: "في رمضان، نشهد إقبالًا وتوافدًا على الخان من خلال مبادرات الشباب المقدسيين والزوار، الذين يأتون للصلاة في المسجد الأقصى، مما يُسهم في إنعاش أسواق ومحلات البلدة القديمة".
قُبيل أذان المغرب، تُسارع أقدام الناشط المقدسي رمزي العباسي برفقة أصدقائه وعائلاتهم، للوصول إلى الخان، وحجز طاولة. يسمعون الأذان، فيشرعون بشرب كوب من مشروب عرق السوس، الذي يطفئ ظمأ عروقهم، ويترقبون نزول صينية المقلوبة الفلسطينية، بالدعاء بثبات أجر الرباط داخله، وحمايته من مخططات المحتل.
يخبرنا: "الأجواء داخل جدران المطعم ممزوجة بعبق التاريخ، نتنفس الهواء الذي تنفسه أجدادنا، فتسود البهجة والفرحة وتعلو الابتسامات على وجوه المتوافدين"، مشيرًا إلى أنهم (كمبادرين) في شهر رمضان تحديدًا، يحاولون إنعاش البلدة القديمة من خلال التوافد بالزوار، والإعلان عن محلاتها؛ للتفريج عن أصحابها الذين يعيشون تحت رحمة الضرائب الإسرائيلية، وتضييقات الجنود.
ويسعى الناشط المقدسي، إلى لفت انتباه 380 ألف متابع عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "إنستغرام"، للأماكن والمعالم المقدسية، ملفتًا إلى تنفيذ الكثير من المبادرات الفردية التطوعية على مدار السنوات الماضية لتحقيق هذا الهدف، "من خلال التوجه لزيارة تلك الأماكن، والتقاط الصور فيها، ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي".
ووفقًا للباحث والمتخصص في شؤون القدس، د.عبد الله معروف، فإن مبادرات التعريف بمعالم مدينة القدس الأثرية، وصمود أصحابها أو "المؤتمنين عليها" كما يحبون أن نطلق عليهم، لها دور كبير في لفت انتباه العالم للإجراءات الإسرائيلية التزييفية لجذور المكان، ومحاولات انتزاع أصحاب الأرض من أرضهم"، مناديًا بضرورة تكثيف الوجود العربي والإسلامي في المدينة المقدسة، "حيث يخشى الاحتلال الأعداد الكبيرة من المواطنين، والتواجد الشعبي في القدس، ويسعى لتقييده ما أمكن".
"تتلخص أهمية المبادرات المقدسية الفردية والجماعية، في زيادة الوعي باحتياجات القدس وأهلها، وعدم تركهم وحدهم في وجه قوات الاحتلال".
وعن أهمية المبادرات المقدسية الفردية والجماعية، يرى أنها تتلخص في "زيادة الوعي باحتياجات القدس وأهلها، وعدم تركهم وحيدين في وجه قوات الاحتلال، بالإضافة لتقديم الدعم المادي المحدود لهم في وجه آلة الاقتلاع الإسرائيلية، التي تحاول جاهدةً تنغيض معيشتهم بالضرائب والغرامات الخيالية، لدفعهم إلى خارج المدينة بشكل هادئ".
ويعبر عن أهمية إسناد المقدسيين ماديًا ومعنويًا بقوله: "هو خطوة مهمة جدًا لتأكيد جذور القدس العربية العريقة، وأن مسؤولية حمايتها كوقف عربي وإسلامي يقع على عاتق الأمة جمعاء لا على عاتق الفلسطينيين وحسب".