غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
يفتح شهر رمضان، بابًا واسعًا على ذكرياتٍ مؤلمة بالنسبة للجريح العشريني أحمد خميس المصري، وقد بات ملازمًا لسريره في منزله بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة.
يعاني المصري (22 عامًا) من شلل نصفي، جراء إصابته الخطيرة بشظية صاروخ إسرائيلي استقرت في نخاعه الشوكي، ومنذ ذلك الحين، لا يقوى على أداء أبسط احتياجاته اليومية.
يقول لـ"نوى": "10 أيام مرت من شهر رمضان المبارك وأنا لا أشعر ببهجة الشهر الذي كان بالنسبة لي أجمل شهور السنة"، متابعًا: "كانت لي طقوس وعادات كثيرة، يا للأسف لم أفعل أيًا منها هذا العام".
وبمرارة يضيف: "كل شيء راح، وحرمتني الإصابة من صلاة التراويح في المسجد، ومن سهرات الأصدقاء، ومن المشي ساعة قبل الإفطار".
أحمد متزوج ولديه طفل رضيع، وقد كان شابًا مقبلًا على الحياة، غير أن إصابته بالشلل النصفي قلبت حياته رأسًا على عقب، بحسب وصفه، ولم يعد هو ذاته ذلك الشاب الاجتماعي، النشيط، المُحب لعمله، ولأسرته، وقد بات عاجزًا حتى عن خدمة نفسه بنفسه.
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023م، تزوج أحمد، وأنجب طفله محمد خلال رحلة النزوح، وبالرغم من أن وضعه المادي كان متواضعًا، إلا أنه كان سعيدًا، مستقرًا، يخبئ الكثير من الأحلام إلى ما بعد انتهاء الإبادة".
"كنت بائعًا على بسطة صغيرة في الشارع، أكسب منها رزقي وأوفر احتياجات أسرتي، لكن حتى هذا العمل البسيط لم يعد بالمستطاع (..) الإصابة دمرت أحلامي وحياتي".
يكمل: "كنت بائعًا على بسطة صغيرة في الشارع، أكسب منها رزقي وأوفر احتياجات أسرتي، لكن حتى هذا العمل البسيط لم يعد بالمستطاع (..) الإصابة دمرت أحلامي وحياتي".
ينظر أحمد إلى ساقيه الساكنتين بعيون يملؤها الحزن والأسى، ثم سرعان ما يتدارك نفسه، وكأنه يقاوم اليأس ويتمسك بالأمل، ويضيف: "لا يزال هناك أمل، وقبل فوات الأوان أناشد منظمة الصحة العالمية، والعالم الحر، بتسهيل سفري للخارج لتلقي العلاج المناسب، الذي يعيد لي حياتي، ويمكنني من المشي مجددًا، فلدي زوجة وطفل وأريد أن أرعاهما".
وبعد فترة من مكوثه في المستشفى قرر الأطباء في قطاع غزة خروجه، فليس لديهم المزيد ليفعلوه له، في ظل إمكانيات متواضعة في المستشفيات المحلية، التي تعرضت على مدار شهور الحرب لسياسة استهداف ممنهجة بالتدمير المباشر، أو بالحصار والقيود ومنع الاحتلال إدخال الأجهزة والمعدات الطبية والأدوية.
زهاء 16 ألف جريح ومريض على قوائم السفر للعلاج بالخارج، ينتظرون فرصهم لمغادرة القطاع من خلال معبر رفح البري، المنفذ الوحيد لمليونين و400 ألف نسمة نحو العالم الخارجي.
وهذا الشاب الجريح واحد من بين زهاء 16 ألف جريح ومريض على قوائم السفر للعلاج بالخارج، ينتظرون فرصهم لمغادرة القطاع من خلال معبر رفح البري، المنفذ الوحيد لمليونين و400 ألف نسمة في القطاع الصغير نحو العالم الخارجي عبر الأراضي المصرية.
ويتهم مسؤولون في وزارة "الصحة" بغزة الاحتلال الإسرائيلي بالتلاعب بمصير هؤلاء الجرحى والمرضى، وخرق البروتوكول الإنساني ضمن اتفاق وقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، وينص على سفر 150 جريحًا ومريضًا يوميًا، إلا أن الاحتلال سمح لأقل من 50 منهم بالسفر.
وتتساءل سالي ماضي بحزن شديد: "لمتى سيستمر التلاعب بأرواحنا؟". هذه المرأة الثلاثينية تعاني من مرض الفشل الكلوي منذ 8 أعوام، وتمتلك تحويلة طبية للسفر للخارج من أجل الخضوع لعملية زراعة كلى، وتقول لـ "نوى": "نحن أسرى للمرض والمعاناة في غزة، حيث لا علاج مناسب، وهناك قيود مشددة على سفرنا".
ماضي (32 عامًا) من سكان مدينة رفح، وعادت إليها قريبًا بعد رحلة نزوح قاسية، وتعاني من أجل العثور على وسيلة مواصلات تُقلها لمجمع ناصر الطبي مرتين أسبوعيًا من أجل غسيل الكلى.
"الجرحى والمرضى في غزة محرومون من كل شيء، حتى الطعام الجيد وبهجة شهر رمضان"، وتتساءل ماضي: "كيف لنا أن نشعر ببهجة هذا الشهر ونحن مشغولون بآلامنا، والقلق الذي يسيطر علينا ونحن ننتظر موافقة على السفر للعلاج؟".
ورغم أن آثار الحصار الحاد، والقيود المشددة التي تفرضها سلطات الاحتلال على المعابر، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية والسلع والبضائع، تطال الجميع في غزة، إلا أن وقعها أشد على المرضي، وبحسب ماضي: "نحن لنا احتياجات ضرورية وأصناف معينة من الطعام الصحي، وبدونها تزداد آلامنا ومعاناتنا".
"يفقد يوميًا ما بين 5 و10 مرضى في القطاع حياتهم، سواء بسبب عدم توفر الخدمة الصحية الملائمة لهم، أو خلال انتظارهم الطويل على قوائم السفر".
وبحسب مسؤول ملف إجلاء الجرحى والمرضى في وزارة الصحة الدكتور محمد أبو سلمية، يفقد يوميًا ما بين 5 و10 مرضى في القطاع حياتهم، سواء بسبب عدم توفر الخدمة الصحية الملائمة لهم، أو خلال انتظارهم الطويل على قوائم السفر لحين الحصول على موافقة أمنية إسرائيلية للسفر للخارج بهدف العلاج من خلال معبر رفح البري.
ويقول أبو سلمية لـ "نوى": "700 مريض بالفشل الكلوي من أصل 1150 مريضًا في القطاع فقدوا حياتهم منذ اندلاع الحرب، بنسبة 40%"، عادًا هؤلاء المرضى "شهداء القتل غير المباشر"، الذي تمارسه دولة الاحتلال بحق الغزيين.
وبينما كان الستيني محمود حسن أبو محسن (69 عامًا)، يلقي بجسده المثقل بالأوجاع على جهاز غسيل الكلى في مجمع ناصر الطبي، قال: "والله تعبت جدًا من انتظار السفر للعلاج، ولدي مضاعفات بالظهر".
ويعاني أبو محسن من هذا المرض منذ 13 عامًا، ومنذ نزوحه القسري من مدينة رفح في مايو/أيار من العام الماضي على وقع الاجتياح البري الإسرائيلي للمدينة، يقيم وأفراد أسرته (10 أفراد) في خيام بمنطقة المواصي غربي مدينة غزة.
ويقول لـ "نوى": "لقد تراكمت علينا الهموم والأوجاع والأمراض بعد الحرب، ولم نعد نشعر بطعم الحياة"، وبعد تنهيدة عميقة، يتابع: "ما ذنبنا نحن المرضى، وما الذي يمنع سفرنا؟ وما الخطر من سفر مريض للعلاج؟".
ورغم ما به من آلام يبدي هذا المريض الكثير من الرضى بما قدره الله له، ويردد: "الحمد لله أنا أفضل حالًا من غيري، وما زلت قادرًا على صوم رمضان والصلاة وقراءة القرآن"، ثم رفع بصره إلى السماء داعيًا: "يا رب اشفني واشف كل جريح ومريض في غزة، وارحم شهداءنا".
