أطفال "الصوري".. هذه حكاية شهداء "بيرفيروس"!
تاريخ النشر : 2025-02-20 14:05

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

"كنا نظن أن دور العبادة محيّدة، لكنني هناك، خسرتُ سهيل، وجولي، ومجد.. أبنائي الثلاثة، نور عيوني ونبض روحي وقلبي" يقول رامز الصوري بحرقة لـ"نوى".

في كنيسة القديس "بيرفيريوس" الواقعة بحي الزيتون، شرقي مدينة غزة، بدأت الحكاية، عندما اختارها الصوري هدفًا للنزوح من بيته في حي الصبرة، جنوبي مدينة غزة، برفقة أكثر من 500 عائلة مسيحية ومسلمة، هربت إليها من نيران القصف الإسرائيلي العشوائي آنذاك.  

يعصر الصوري (47 عامًا) ذكريات ذلك اليوم في عقله، ويخبرنا بصوتٍ متحشرج: "ببراءة، طلب مني سهيل (14 عامًا) وشقيقه مجد (11 عامًا) الذهاب إلى الحلاق. كانت المرة الأولى التي أمنحهما فيها حرية اختيار الموديل.. أخذتهما بعدها إلى البيت ليأخذا حمامًا، ثم رجعنا على وجه السرعة للمبيت في المبنى الشرقي للكنيسة".

جمع الأطفال ألعابهم من البيت، وأتيا بلعبة "البوكر" ليلعبا بها مع أقرانهم في الغرفة المجاورة. انعقدت حلقة اللعب، وإذا بالجد يدخل في وعكة صحية. يضيف الأب المكلوم: "أسرعت بالنزول لجلب مُسكّن من أي بيت أو صيدلية، وتركت الأطفال في الغرفة يضحكون، ثم سرعان ما لحقت بي زوجتي. لم يمضِ على خروجنا من المبنى 20 دقيقة، حتى فوجئنا باهتزاز الأرض من تحتنا".

في التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023م، ارتكب سلاح الطيران الإسرائيلي مجزرة في كنيسة القديس "برفيريوس"، ثالث أقدم كنيسة في العالم، راح ضحيتها 18 شهيدًا مسيحيًا، بينما أصيب العشرات بين مسلمين ومسيحيين.

"تحول المبنى الذي يقبع به أطفالي إلى أكوام من الركام والغبار. صرخت زوجتي: أولادي، وين أولادي؟ بينما كنتُ أعرف في داخلي أنني لن أراهم من جديد".

يحكي الرجل بينما لم يتمكن من تمالك دموعه: "تحول المبنى الذي يقبع به أطفالي إلى أكوام من الركام والغبار. صرخت زوجتي: أولادي، وين أولادي؟ بينما كنتُ أعرف في داخلي أنني لن أراهم من جديد".

يضيف الأب: "ركضت بسرعة جنونية لمكان الضربة، صُعقت حين شاهدت المبني عبارة عن حفرة بعمق 5 أمتار أسفل الأرض، لم ألقِ بالًا لعتمة الليل والغبار المتطاير في الجو، اندفعتُ إلى الحفرة وبدأت بنبش الرمل بيدي حتى لمستُ وجه ابن عمي.. كان فيه نَفَس، وقبل أن أسأله عن أطفالي جاءني الرد: "كلهم استشهدوا، يا رامز لم ينجُ أحد، لا تبحث وتخاطر بنفسك!".

ويكمل رامز: "بقيت صدى كلماته تترد في أذني، بينما خفقان قلبي لا يتوقف. أناملي لم تهدأ دقيقة وهي تنبش الرمال في الحفرة، حتى توقفت أخيرًا. لقد كان ابني سهيل وقد فتح الصاروخ رأسه، ثم رأيت جولي ومجد وجسديهما مطرزان بالشظايا، بينما الدم يسيل منهما وتتشربه الأرض العطشى. هنا فقط أيقنتُ أنني كما بدأتُ عُدت".

أول سبعة أشهر من فقدان الصوري أولاده الثلاثة، كانت الأصعب، "كانت حارقة، قاتلة" وفق وصفه. يضيف: "عشت في حالة صدمة وذهول: هل حقًا هذا حدث معي؟ أم أنني أعيش كابوسًا طويلًا لا ينتهي؟ هكذا حتى قررتُ أن أصحو".

غسل الصوري حزنه بعدما أيقن أنه لن يعيد إليه الأحبة. قال إنه لن يستسلم بعد الآن لهذا الحزن، وسيحوله لهدية يقدمها لأرواح أبنائه الثلاثة.

بدأ الصوري يبحث عن أي مجال يمكن أن يساعد من خلاله الناس في مدينة غزة، فينخرط فيه، أعمال إنسانية، ومعونة للعائلات النازحة من شمالي القطاع، ومحاولة تعويض الأطفال الصغار عن كل ما فقدوه في ظل هذه الحرب المسعورة.

دراجة الشهيد سهيل، كانت وسيلة المواصلات التي اعتمدها والده في طُرقات شمالي قطاع غزَّة، من أجل توزيع الطرود الغذائية، وصناديق الأدوية على أصحاب الأمراض المزمنة، مسلمين ومسيحيين.

دراجة الشهيد سهيل، كانت وسيلة المواصلات التي اعتمدها والده في طُرقات شمالي قطاع غزَّة، من أجل توزيع الطرود الغذائية، وصناديق الأدوية على أصحاب الأمراض المزمنة، مسلمين ومسيحيين، بينما كان في كل حلقة أطفال يلعبون، يلمس وجه جولي وصوت ضحكات مجد، يتركهم وهو يدعو لهم بالحفظ وألا يذوق آباءهم مرارة الفقد أبدًا.

يعقّب: "هذا منحني ارتياحًا نفسيًا كبيرًا، شعرتُ أنني الآن مسخر فقط لخدمة الناس، وأن هذا كله يسعد قلوب أطفالي في السماء".

ويتحدث مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية، د.ياسر أبو جامع، عن "الفقد" كتجربة إنسانية مؤلمة، تترك أثرًا عميقًا في نفس الفاقد، قائلًا: "الوضع الفلسطيني، وبالتحديد في قطاع غزة، والظروف المحيطة به، تجعل الفقد أصعب ووطأته أمر، خصوصًا في حالة عدم انتشال الجثمان، وبقائه تحت الأنقاض".

وعرج إلى تفاقم الآثار السلبية للفقد على نفسية الفاقدين، بسبب استمرار الحرب والنزوح والتشريد، والعيش في ظروف بيئية غير مساعدة على التعافي.

في المجال النفسي، يمر الفاقد بأربع مراحل، وفقًا لأبو جامع، تبدأ بالإنكار بأن الفقد حصل، وتكون أصعب ببقاء جثمان المفقود تحت الأنقاض، تتبعها مرحلة الغضب والتساؤل (لماذا حصل ذلك؟)، وما الذي اقترفته لأفقد هذا الشخص؟ ما هو ذنبي؟ ويصاحبه غضب وتوتر اتجاه الذات والمجتمع.

ينتقل بعدها الفاقد إلى المرحلة الثالثة، التي يبدأ فيها الإنسان التفاوض والمساومة النفسية، التي تنتهي بمرحلة القبول والمضي قدمًا في الحياة، وما بين التفاوض والمساومة قد يدخل الفاقد في مرحلة الاكتئاب التي بحاجة لتدخل ودعم نفسي متخصص.

وعن المدة الطبيعية التي لا يجيب أن يتجاوزها الفاقد في إطار الصدمة، يُجيب: "تتفاوت المدة من شخص لآخر تبعًا شخصيته، وصلابته النفسية، لكن عادة لا تستمر لأكثر من أسبوعين متتاليين".

"عند ظهور أعراض نفسية شديدة على الفاقد، مثل استمرار البكاء والحزن الشديد، أو حدوث خلل في الأداء الوظيفي. هنا على المحيطين به أن يعلموا أنه صار بحاجة ماسة جدًا للتدخل العلاجي".

وحسب أبو جامع، فإن الفاقد لا يفقد القدرات الوظيفية، ويكون قادرًا على القيام بالمهام اليومية، "ولكن عند ظهور أعراض نفسية شديدة مثل استمرار البكاء والحزن الشديد، أو حدوث خلل في الأداء الوظيفي. هنا على المحيطين به أن يعلموا أنه صار بحاجة ماسة جدًا للتدخل العلاجي النفسي" يستدرك.

وعن النصائح التي يوجهها مدير عام برنامج غزة للصحة النفسية، لكل من فقدوا أحبابًا في هذه الحرب، "استمرار الاندماج في المجتمع، والانخراط في جو الأسرة، وترتيب بيت عزاء، فهذه مرحلة مهمة في المواساة، بالإضافة الى تعزيز الوازع الديني لدى الفاقد، والاستمرار في التواصل معه لحين التأكد من أنه وصل لمرحلة القبول والتسليم، والتعافي الجزئي على الأقل من هذا الفقد الموجع".