غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
وكأن الحدث يمر أمام ناظريه. يحدثنا الطفل شريف جرادة وهو يغالب عينيه ليمنع دموعه من التساقط: "رأيتُ كلبًا يسحب شهيدًا من رقبته".
تختزن ذاكرة شريف (15 عامًا) هذا المشهد المؤلم منذ الاجتياح البري الإسرائيلي لمدينة خان يونس في جنوبي قطاع غزة خلال الفترة ما بين ديسمبر/كانون الأول، وحتى إبريل/نيسان الماضيين. وتعكس طريقة هذا الطفل في روايته للحدث بتأثر شديد أنه سيلازمه لبقية حياته ولن يسقط من ذاكرته.
حوصر شريف مع أسرته (8 أفراد)، وآخرين من الجيران، في المستشفى الميداني الأردني القريب من مجمع ناصر الطبي غربي مدينة خان يونس، ويقول لـ"نوى": "لم نتمكن من مغادرة المستشفى بسبب شدة الغارات الجوية الإسرائيلية، وكثافة إطلاق النيران من الدبابات والآليات المتوغلة".
تقطن هذه الأسرة في محيط مجمع ناصر، الذي كان الهدف الأبرز لقوات الاحتلال من اجتياحها للمدينة، الذي استمر لنحو أربعة شهور، اقتحمت خلاله المجمع المكون من 3 مستشفيات تخصصية، وعاثت فيه فسادًا وتدميرًا، واعتقلت العشرات من بينهم أطباء وكوادر طبية.
فوجئ شريف وأسرته بوصول الدبابات والآليات العسكرية الإسرائيلية للمجمع، ولم يتمكنوا سوى من مغادرة منزلهم القريب نحو المستشفى الميداني الأردني، وقضوا أيامًا من الرعب، وكان وقتها فصل الشتاء حيث البرد والأمطار.
يحكي: "كنا نسترق النظر نحو الخارج، وشاهدت جثة شهيد ملقاة على مقربة من المستشفى واقترب منها كلب ونهشها من الرقبة وحاول سحبها. كدت أن أنهار من هول المشهد، ولم يتجرأ أحد لمحاولة إنقاذ الجثة من بين أنياب الكلب إلا بعد أيام، عندما تراجعت قوات الاحتلال من المنطقة، وكنت بين مجموعة شبان فنجحنا في دفنها".
"كنا نسترق النظر نحو الخارج، وشاهدت جثة شهيد ملقاة على مقربة من المستشفى واقترب منها كلب ونهشها من الرقبة وحاول سحبها. كدت أن أنهار من هول المشهد".
ومن المستشفى الأردني نزح شريف وأسرته نحو منطقة المواصي غربي مدينة خان يونس، ولم يعد لمنزله إلا بعد انسحاب قوات الاحتلال من المدينة في الخامس من إبريل الماضي.
ويفتقد هذا الطفل لحياته كلها، وهو الذي كان متفوقًا في دراسته ويحلم بدراسة الطب، لكنه اليوم يقضي نهاره كله وحتى أطراف الليل الأولى على بسطة مقابل مجمع ناصر لجني بعض المال للمساعدة في إعالة أسرته.
لكل طفل وطفلة في هذه الحرب حكاية ستدوم طويلًا في الذاكرة، وكيف لملك أبو ناموس (15 عامًا)، النازحة مع أسرتها من مخيم جباليا شمالي القطاع، أن تنسى المجزرة التي نجت منها وأفراد أسرتها، وفقدت خلالها 22 فردًا من أعمامها وعماتها وأسرهم، تحت غارة جوية إسرائيلية دمرت المنزل فوق رؤوسهم.
قبل وقت قصير من وقوع الغارة لجأت ملك وأسرتها لمنزل مجاور لأقاربها، بسبب ضيق المكان، وتقول ملك: "لم تكن غارة واحدة، كان حزامًا ناريًا عنيفًا، وشاهدت النيران تلتهم كل شيء. كل المنزل صار دمار".
وبصوت خافت وقد أشاحت بوجهها بعيدًا تابعت ملك: "رأيت ابن عمتي يحيى (3 أعوام) شهيدًا مقطع الأطرف والدماء تنزف منه (..) المشهد كله كان مرعبًا ولن أنساه".
وتأكيدًا على قساوة هذا المشهد الدموي، تقول والدة ملك لـ "نوى": "أنا نفسي لا أزال أعاني منه، ولا يغيب عن بالي (..) والله كلنا بدنا علاج نفسي من الحرب واللي شفناه فيها".
وكان الطفل سعيد أبو السعيد (14 عامًا) شاهدًا على قتل والدته أمام عينيه. يقول لـ "نوى": "كنا في شهر رمضان المبارك، وكانت أمي بالمطبخ، عندما صرخت وسقطت أرضًا وقد أصابتها 5 رصاصات في ظهرها".
تقطن أسرة هذا الطفل في منزلٍ مجاور لمجمع ناصر الطبي، ووجدت نفسها محاصرة تمامًا، ولا تستطيع التحرك حتى بالتنقل بين الغرف، عندما حاصرت قوات الاحتلال المجمع، واقتحمته، وقد انتشر قناصة الاحتلال على أسطح المنازل والبنايات المرتفعة المحيطة بالمجمع.
يقول الطفل سعيد والحزن يكاد يقفز من عينيه: "ماتت أمي وبقيت أمامنا جثة هامدة ليومين، ننظر إليها، ولم نتمكن من دفنها في المقبرة".
ووجدت هذه الأسرة لحظة مواتية للخروج بالجثة، ورفع أفرادها الرايات البيضاء، غير أن سعيد يقول "إن مسيرات الكوادكابتر أطلقت علنا النار، ونجونا، ولكن دبابات الاحتلال اعترضتنا واعتقلت أبي وأعمامي، وبعد 4 أيام أفرج الاحتلال عن أبي، وبقي أعمامي عدة أسابيع، وقالوا عندما أفرج الاحتلال عنهم إنه تم استخدامهم دروعًا بشرية، وأجبرهم الجنود على السير أمام الآليات ودخول بنايات لاكتشافها قبل اقتحامها".
وبصعوبة بالغة استطعت تمييز كلمات الطفلة آمال طاعة (7 أعوام) التي كانت تخرج منها وكأنها تننتزع روحها، واختلطت مع كثير من البكاء والدموع، وهي تروي لـ "نوى" مشهد شقيقها الأكبر عمر (15 عامًا)، وقد سقط مضرجًا بدمائه، وتسببت غارة جوية إسرائيلية في فصل رأسه عن جسده.
تمالكت نفسي من مشاركة هذه الطفلة البكاء، فيما بكى معها والدها، واحتضنها، وهو يتمتم ويتضرع إلى الله بوقف الحرب ونزيف الدم والأرواح.
واختطفت الحرب الإسرائيلية في عامها الثاني على التوالي أكثر من 45 ألف شهيد، وما يزيد على 107 آلاف جريح.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن 70% من الشهداء والجرحى هم من النساء والأطفال، علاوة على دمار هائل سيعيق عودة الغزيين إلى حياتهم الطبيعية لسنوات عديدة قادمة.
