غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
"روان ما تلعبي بالمية، وانتبهي لحبل الخيمة"، هل لكم أن تتخيلوا أن هذه التوجيهات صادرة من أم كفيفة لابنتها الطفلة الكفيفة؟
وكأن ياسمين أبو جاموس تبصر وتدرك الجغرافيا من حولها، وهي النازحة المقيمة مع زوجها وطفلتيها الكفيفتين في خيمة بـ "مقبرة النمساوي"، غربي مدينة خان يونس، جنوبي قطاع غزة.
ياسمين (32 عامًا) ولدت كفيفة، وقد ورثت هذه الإعاقة البصرية واثنتين من شقيقاتها وأحد أشقائها عن والدها الكفيف، وورثتها لطفلتيها روان (4 أعوام) وتهاني (عامان)، فيما زوجها وهو ابن عمها سمير (28 عاما) يبصر، ولا تمل عن مدحه وتقول عنه: "هو سندي بعد رب العالمين".
تقيم هذه الأسرة في خيمة من بين خيام أخرى تؤوي أسر نازحة أخرى، لم تجد لها مكانًا سوى مجاورة الأموات في المقبرة، حيث لم يبق في مدينة خان يونس موضعًا لخيمة عقب النزوح الكبير من مدينة رفح عشية الاجتياح العسكري الإسرائيلي الواسع في 6 مايو/أيار الماضي، المستمر حتى اللحظة.

نزحت ياسمين مع أسرتها لأول مرة من منزلها في بلدة بني سهيلا شرقي مدينة خان يونس، وقضت شهورًا في مدينة رفح، وعقب اجتياحها نزحت نحو منطقة أصداء في مواصي خان يونس، ومنها عادت إلى منزلها المدمر بشكل هائل وأقامت في خيمة بجواره. وتقول: "حتى الخيمة دمرها الاحتلال عندما توغّل في البلدة قبل نحو خمسة شهور".
لا تمتلك هذه الأسرة شيئًا من متاع الدنيا، بحسب ياسمين، فإنها وزوجها وطفلتيهما نزحوا أول مرة بالملابس التي تستر أجسادهم، ولم يكونوا متوقعين أن تستمر الحرب وتطول لشهور طويلة، وتدخل عامها الثاني على التوالي، وعندما نزحوا من الخيمة تركوها على عجل، حتى أن الخوف أنساها هاتفها المحمول، ودمر الاحتلال الخيمة بكل ما فيها.
في ذلك الوقت، ولنحو 12 يومًا افترشت هذه الأسرة الأرض والتحفت السماء بجوار جدار المقبرة، "حتى سخر الله لنا أحدهم، أحضر لنا هذه الخيمة ونصبها هنا. أتمنى أن تتوقف الحرب قريبًا ويعود كل نازح ومشرد لمنزله ومنطقته" تقول ياسمين التي تبدي قدرًا كبيرًا من الرضا والتسليم بما قسمه الله لها، وهي الحافظة للقرآن الكريم كاملاً.
وتمتلك ياسمين لسانًا فصيحًا ووعيًا كبيراً، وتتحدث بطلاقة اكتسبتها من حفظها للقرآن، ودراستها الجامعية حيث تحمل شهادة معلم صف في تخصص تربية الطفل من الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية التي درستها بمنحة 70% خاصة بذوي الإعاقة البصرية و30% كحافظة للقرآن، وتقول إن "التعليم ساعدها كثيرًا في التعامل مع حالتها كأم كفيفة، ومع طفلتين أراد الله أن تولدا كفيفات".
تعتمد هذه الأم المثابرة على حاستي السمع واللمس، وتتمتع بقدرة كبيرة على حفظ المعالم والأشياء من حولها، وتشير إلى أن لزوجها دورًا مهمًا في حياتها، ويساعدها في كل تفاصيل الحياة اليومية، مردفًا: "في البداية شرح لنا المكان وكل ما فيه، وحفظته، وقمت بتحفيظه لروان وتهاني".
ليس لسمير مهنة محددة، ويعمل منذ ما قبل اندلاع الحرب في جمع المعادن والبلاستيك من الشوارع وبيعها، وتقول ياسمين: "كان يعود لنا بعشرين شيكلًا تكفي لطعامنا وشرابنا، أما اليوم الأسعار غالية نار وليس لنا دخل".
وحاليًا يخرج سمير منذ الصباح الباكر حاملًا معه كيس كبير فارغ ويعود بعد منتصف النهار، وقد جمع في هذا الكيس ما يصلح أن يكون وقودًا للنار، كي يشعلها ويطهو ما يتوفر لدى هذه الأسرة من معلبات، وبلغة بعيدة عن الابتذال تقول ياسمين: "وضعنا صعب مثل كل الناس (..) والله مكثنا أيامًا بدون خبز".
وحرصت هذه الزوجة الصالحة مرارًا على منح زوجها ما يستحق من الثناء، وتخبرنا أنه يشعل النار ويساعدها في الطبيخ، وجلي وغسيل الأواني القليلة في خيمتها وحصلت عليها من تبرعات شخصية من الجيران، ويجاورها عند الغسيل لمساعدتها، وتكمل: "أميز باللمس القطعة البيضاء من الملونة، وسمير يساعدني في كل شيء حتى بالغسيل ونشره، وقبل أيام سخره الله لنا لحمايتنا وقد قتل "حيّة" تسللت داخل الخيمة".
يبدأ يوم ياسمين باكرًا حيث تستيقظ لأداء صلاة الفجر، وتقول: "أدعو الله أن يفرج كربي وكربنا جميعًا في غزة. والله نحن نستحق حياة أفضل".
وتتابع: "أنا صابرة ومحتسبة، ولكن يلزمني أشياء ضرورية خاصة لطفلتي مثل البامبرز (الحفاضات)"، وتشير إلى أنها اضطرت إلى تمزيق قطع من ملابسها وملابس زوجها، واستخدمتها لابنتها بدلًا عن الحفاضات، التي لا تقوى على شرائها لارتفاع أسعارها بصورة مبالغ فيها، حيث وصل سعر الحفاضة الواحدة لأكثر من 10 شواكل.
وبدوره، يقول المبادر محمد شبير (33 عامًا) وهو أحد أعضاء فريق "إسناد الخير"، الذي أسس "المخيم داخل المقبرة"، إنه ونحو 20 مبادرًا أنشأوا هذه الخيام لإيواء أسر نازحة ومهمشة، كانت تسكن الشوارع، ولا تجد لها مكاناً.
وتواصل هذا الفريق مع هيئات مانحة، فتمكن من توفير الخيام وبعض المستلزمات الضرورية لإيواء هذه الأسر، ومنها أسرة ياسمين، التي يقول عنها شبير إنها "أسرة لا معيل لها وتحتاج كل دعم ومساندة"، مضيفًا: "كل الأسر في خيام المقبرة بحاجة لمن يدعمها، ويوفر لها الاحتياجات الحياتية الأساسية".
