غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
كان "الحمار" ملاذًا وحيدًا للعشرينية آمنة الزريعي عندما تقطعت بها السبل. وجدت نفسها فجأةً وأسرتها البسيطة، نازحةً بلا دخلٍ أو معيل، في ظل واقعٍ بائس ومجاعة تعصف بحياة الغزيين جنوبي قطاع غزة.
آمنة (27 عامًا)، الصغرى بين شقيقتيها آمال وهند، والمتكفّلة بهن وبوالدهن، تقول لـ "نوى": "والدي كبير ومتعطل عن العمل منذ سنوات بسبب إصابته بمشكلات صحية في السمع والبصر، ووالدتي مريضة بالضغط والسكر".

هذه الأسرة كانت تقيم في منزل متواضع بمنطقة وادي السلقا المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي شمال شرقي مدينة خان يونس، قبل أن تُجبر على النزوح لخطورة المنطقة، مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
تقول آمنة: "كنا نعيش حياة بسيطة، ولا نمتلك سوى عربة الكارو، وقد واستخدمناها في رحلة النزوح القسرية من وادي السلقا إلى مدينة دير البلح، حيث عائلة والدتي هناك".
كانت الأسرة تستخدم "الكارة" التي يجرها حمار لقضاء الالتزامات الحياتية اليومية، لكنها اليوم بالنسبة لآمنة "مصدر الدخل الوحيد"، حيث تعمل عليها بشكل يومي، كوسيلة مواصلات، تتحصل من خلالها على مبالغ تتدبر بها احتياجات أسرتها.
ليس لآمنة تجربة سابقة في هذا العمل، غير أن "ضيق الحال" كما تقول لم يترك لها أي خيارات أخرى من أجل توفير "لقمة العيش"، وتضيف: "شعرت بالخجل في البداية، عندما بدأت السير بعربتي في شوارع دير البلح، والمناداة على الركاب، لكنني اليوم أكثر جرأة (..) حياتنا صعبة وما في حدا لأسرتي غيري".
وتبدأ رحلة آمنة اليومية مع العمل عند السابعة صباحًا، بينما تعود إلى أسرتها بعد ساعات الظهر، ولا تتوقف مهامها عند ذلك. تضيف: "التفكير يرهقني كل يوم حول ما يمكن أن أوفره لأسرتي من طعام. أعتمد بالأساس على تكية خيرية، لكن الحظ لا يحالفني في كل مرة للحصول على وجبةٍ مجانية، وقد اضطررنا مرارًا لمبيت ليلنا جائعين".
ودفعت القيود الإسرائيلية المشددة منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على دخول المساعدات الإنسانية من خلال معبر كرم أبو سالم، وهو المنفذ الرئيس جنوبي القطاع، الكثير من التكايا الخيرية وغالبية المخابز المدعمة من هيئات دولية إلى الإغلاق، لعدم توفر السلع والبضائع والطحين.

وإضافة إلى انعكاس هذا الواقع على حياة مئات آلاف النازحين والأسر الفقيرة في جنوبي القطاع، فإن معاناة آمنة وأسرتها تعمقت مع مرض الحمار، وعطب أصاب "الكارة"، لا تمتلك المال اللازم لإصلاحه، حتى وجدت نفسها خلال الأيام الماضية بلا عمل أو مصدر دخل.
تعتني آمنة حاليًا بحمارها وتنتظر بفارغ الصبر تماثله للشفاء، وتتطلع إلى من يساعدها أو يقرضها بعض المال من أجل إصلاح عربة الكارو، ومعاودة العمل الذي يمثل "نافذة الأمل والحياة الوحيدة لي ولأسرتي" تعلق.
وفي ظل تداعيات الحرب والحصار وشح الوقود، توقفت غالبية سيارات الأجرة عن العمل جنوبي القطاع، وباتت العربات التي تجرها الحيوانات هي وسيلة المواصلات الرئيسة والمتاحة.
"ومثلما تحتاج السيارة للوقود والصيانة فإن الحيوان يحتاج للغذاء"، تقول آمنة، التي تشكو من غلاء أسعار الشعير والتبن، وتوضح أنها منذ شهور طويلة تطعم حمارها "الحشيش الناشف"، الذي تجمعه من الشوارع والأراضي الزراعية المهجورة.
تتدخل والدة آمنة، السبعينية "خضرة عبيد علي" بالحديث، وتبدأ حديثها بكلمتين هما الأكثر ترددًا على ألسنة الغزيين في هذه الأيام: "ظروفنا صعبة". وتتابع السيدة التي لم تسرق منها الظروف ابتسامتها وبشاشة وجهها: "لدي 3 بنات وزوجي مريض، ولا أريد أكثر من كيس طحين وأغطية من برد الشتاء".
وكانت هذه الأسرة تعتاش قبل اندلاع الحرب على مبلغ 700 شيكل تتقاضها من السلطة الفلسطينية مرة كل ثلاثة شهور وتسمى شعبيًا بـ"شيك الشؤون"، وتصرف للأسر الفقيرة والمعدمة.
وتقول خضرة لـ "توى" إنها ومستفيدي الشؤون، لم يتقاضوا مستحقاتهم منذ شهور طويلة، وتتساءل: "لمن يتركونا وكيف نعيش؟".

"والله نفسي في الباذنجان ومش قادرة أشتريه" هذه إجابة المرأة البسيطة على سؤالنا: "شو بنفسك تاكلي؟"، ولم تتمنَّ اللحوم والدواجن المفقودة من الأسواق أصلًا، أو الأسماك الشحيحة، التي لا يقوى على أسعارها سوى القلة القليلة.
وعقب قرار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" تعليق إدخال المساعدات عبر معبر "كرم أبو سالم" بسبب القيود الإسرائيلية وعمليات السطو والسرقة من اللصوص، وصف المستشار الإعلامي لـ"أونروا" عدنان أبو حسنة الوضع الإنساني في غزة بأنه "خطير للغاية".
وقال في تصريحات له نشرها مكتب إعلام "أونروا": "بدأت المجاعة بالفعل في مناطق شمالي القطاع وجنوبه، والسكان يعتمدون بشكل رئيس على الطحين الذي أصبح غير متوفر. المواد الغذائية الأخرى، حتى المتوفرة منها، أصبحت باهظة الثمن وغير ميسورة للسكان الذين لا يملكون أي سيولة نقدية".
ويحذر أبو حسنة من أن "استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى انهيار كامل للمنظومة الإنسانية في غزة خلال أيام قليلة"، وقال: "يجب أن يكون هناك حل حقيقي يضمن دخول المساعدات ووصولها إلى المستفيدين، بدلًا من سرقتها، ما يؤدي إلى فشل الجهود الإنسانية بالكامل".
