غزة.. علاجات "نفسية" شحيحة و"مآسٍ" على مدّ البصر!
تاريخ النشر : 2024-11-11 12:44

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

في غرفةٍ صغيرة تحوّلت لعيادة نفسية داخل مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، لا تكاد الطبيبة النفسية هدى أبو نمر تلتقط أنفاسها وهي تستقبل المراجعين والمرضى الذين يتجمهرون أمام الباب، في انتظار الدور.

يدخل واحدهم، فيبدأ بعرض حالته. تنصت له باهتمام، وتجتهد في كتابة وصفات علاجية بالقليل من الأدوية والعلاجات المتوفرة، مع الكثير من النصائح التي تعلم أنها ربما لن تنفع في ظل هجمات الخوف والرعب اليومية التي تخترق هدأة الآمنين.

على باب هذه الغرفة ألصقت ورقة صغيرة تشير إلى أنها "عيادة الطب النفسي"، وهي الوحيدة في المدينة الجنوبية التي تؤوي زهاء مليون و200 ألف نسمة من سكانها والنازحين فيها.

تقول الدكتورة هدى لـ "نوى": "أستقبلُ يوميًا حالات كثيرة من المرضى. ليسوا جميعهم مرضى قُدامى من مرتادي مراكز وعيادات الطب النفسي، وإنما هناك حالات أصيبت بمشكلات تصنف أنها نفسية، مرتبطة بتداعيات الحرب الإسرائيلية الضارية الدائرة في القطاع للعام الثاني على التوالي".

"مرضى في سن الشباب، الكثير منهم خاضوا تجربة اعتقال قاسية وتعذيب شديد، وخرجوا محمّلين بأمراض جسدية ونفسية، فيما الأمراض النفسية التي تعاني منها نساء يكون مردها الفقد".

ولا تقتصر الأمراض النفسية المرتبطة بالحرب على فئة معينة أو جنس معين أو عمر محدد، وتصنف الدكتورة هدى المرضى الجدد الذين يعانون من صدمات نفسية، بالقول: "من بينهم مرضى في سن الشباب، الكثير منهم خاضوا تجربة اعتقال قاسية وتعذيب شديد، وخرجوا محمّلين بأمراض جسدية ونفسية، فيما الأمراض النفسية التي تعاني منها نساء يكون مردها الفقد، كمن فقدت زوجها أو ابنًا أو أكثر، وهناك من فقدت عائلتها بأكملها".

وإضافة إلى هؤلاء -وفق الطبيبة النفسية الشابة- يتردد على العيادة أطفال يعانون من التبول اللاإرادي والتبول الليلي، والقلق، وعدم القدرة على النوم بفعل الصدمات العنيفة التي تعرضوا لها وهول ما شاهدوه وعايشوه خلال شهور الحرب، وتجارب النزوح القاسية.

يتردد على العيادة أطفال يعانون من التبول اللاإرادي والتبول الليلي، والقلق، وعدم القدرة على النوم بفعل الصدمات العنيفة خلال شهور الحرب، وتجارب النزوح القاسية.

وهناك حالات مرضية مزمنة، تدهورت وزادت سوءًا بسبب أهوال الحرب، وانهيار منظومة الطب النفسي، وعدم توفر غالبية الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية، الأمر الذي يتسبب بنوبات غضب، حتى بات بعضهم يشكلون خطرًا شديدًا على أنفسهم وعلى الغير، "وقد يصل هذا الخطر إلى حد الاعتداء الجسدي"، وفقًا للدكتورة هدى.

ونتيجة نقص الأدوية تلجأ الدكتورة هدى إلى ما وصفتها بـ "الأدوية البديلة"، وهي ليست بالضرورة من عائلة الأدوية الخاصة بالأمراض النفسية، وإنما تصفها للمرضى كإجراء اضطراري للتغلب على حدة أزمة عدم توفر غالبية أصناف الأدوية.  

وبينما كانت الدكتورة هدى تتحدث لـ "نوى"، حضر مريض خمسيني يرتاد منذ العام 2007م عيادات الطب النفسي، جراء صدمة نفسية تعرض لها آنذاك، ويعاني بشدة منذ اندلاع الحرب الحالية نتيجة عدم توفر الأدوية التي اعتاد عليها لسنوات.

اضطر أبو أمجد لخوض تجربة النزوح 12 مرة، بدأت منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، عندما غادرَ منزله الذي بات أثرًا من بعد عين.

ومن بين 4 أصناف علاجية يحتاجها هذا المريض، ويكنى بـ "أبو أمجد"، منحته الدكتورة هدى نصف الكمية من صنف دوائي واحد، ويقول أبو أمجد (57 عاما) لـ"نوى" وقد بدا واعيًا بما يقول، مدركًا لحالته الصحية، بأن "هذه الكمية غير كافية"، وأنه يخشى انتكاسة في حال طالت الحرب أكثر من هذا، وهو الذي تحسنت حالته بعد سنوات من العلاج.

وتعرض أبو أمجد وهو رب أسرة مكونة من 7 أفراد لصدمات شديدة خلال الحرب، جراء تدمير الاحتلال منزله المكون من 4 طبقات في شرقي خان يونس، واضطر لخوض تجربة النزوح 12 مرة بدأت منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، عندما غادرَ منزله الذي بات أثرًا من بعد عين، وتنقّل في مناطق عدة وتشتّتت عائلته، وقد أصيبت ابنته المتزوجة بجروح في منطقة الحوض جراء شظية صاروخ باستهداف إسرائيلي لمركز إيواء.

وبوعيٍ كبيرٍ يضيف: "إن استمرار هذه الحرب يشكل خطراً على حياة جميع المرضى وخاصة المرضى النفسيين، والضغوط الشديدة جراء القتل والنزوح ستزيد من أعداد المرضى النفسيين في القطاع، وستظهر الآثار الخطيرة على السكان بعد توقف الحرب".

ويدعم الرأي الطبي ما تحدث به أبو أمجد، إذ يقول مدير عام الصحة النفسية المجتمعية بوزارة الصحة الدكتور خليل شقفة لـ "نوى": "إن حجم الاحتياج كبير لعيادات ومراكز الطب النفسي جراء هذه الحرب غير المسبوقة، وأثرها طال كل الفئات من دون استثناء".

ويؤمن الدكتور شقفة أن الاحتلال استهدف بشكل ممنهج ومقصود الصحة النفسية للغزيين، من أجل العبث باستقرارهم النفسي، وذلك من خلال منع أدوية الطب النفسي التي يكاد يكون رصيدها صفرًا، وهدف هذه السياسة الإسرائيلية زيادة التوتر والعصبية والعدائية بالمجتمع.

وعلاوة على منع توريد الأدوية يدلل الدكتور شقفة على الاستهداف الممنهج لمنظومة الطب النفسي باستشهاد 14 وإصابة آخرين من كوادرها الطبية، وبخروج 6 مراكز للصحة النفسية عن الخدمة، كانت تقدم الخدمات لمئات المراجعين والمرضى يومياً من خلال عيادات وصيدليات لصرف الأدوية، إضافة إلى "مستشفى الطب النفسي" الوحيد على مستوى القطاع المخصص لمبيت المرضى، وكان يؤوي عند اندلاع الحرب 30 مريضاً منومين بصورة دائمة، وعدد منهم داخل قسم العزل لخطورة حالتهم الصحية.

ونتيجة استهداف هذه المستشفى بشكل مباشر بقذيقة أصابت أحد أدوارها، ومن ثم خروجها عن الخدمة، بات هؤلاء المرضى في الشوارع ويشكلون خطراً كبيراً على أنفسهم وعلى الآخرين في المجتمع، ويوضح الدكتور شقفة أن مثل هؤلاء المرضى قد يتحولون في أي لحظة إلى شخصيات متوحشة وعدائية، ويلحق المريض في هذه الحالة الأذى بنفسه أو بالآخرين، وقد حرمتهم الحرب من المتابعة الطبية والأدوية.