رصاص البرد يخترق أجساد النازحين بغزة!
تاريخ النشر : 2024-10-22 16:53

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

من مكان إلى آخر بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة تنقلت مريم المصري، وجابَت شارع البحر، الممتد غربًا حتى منطقة المواصي المكتظة بالنازحين، بحثًا عن ملابس شتوية لطفليها، ثم عادت بعد عناء نهارٍ كامل بكفّين خاويين.

وعلى هذه الحال تداوم الأم الثلاثينية منذ نحو عشرة أيام، تخرج مبكرًا من شقتها السكنية شبه المدمرة في منطقة البلد بمدينة خان يونس، وليس لها مهمة سوى العثور على بعض الملابس الشتوية لطفليها جاد (5 أعوام) وكنان (3 أعوام).

عادت مريم وأسرتها إلى شقّتها بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من خان يونس، في شهر نيسان/إبريل الماضي بعد اجتياحٍ استمر لنحو أربعة شهور، وتقول لـ "نوى": "وجدنا آثارًا للاحتلال في شقتنا وكل شقق البناية.. كتابات باللغة العبرية على الجدران ورسوم عنصرية، وقد عاث الجنود فسادًا وتدميرًا، ولم نجد ملابسنا وغالبية محتويات الشقق، وقد تشارك الاحتلال واللصوص في سرقتنا وتدميرنا".

فقدت مريم غالبية ملابسها وملابس زوجها وطفليها من بين الكثير من مقتنيات شقتها، عند عودتها من النزوح القسري في مدينة رفح التي غادرتها كذلك على وقع عملية عسكرية إسرائيلية برية لا تزال متواصلة منذ مايو/أيار الماضي.

عندما نزحت مريم مع أسرتها الصغيرة لم تحمل معها الكثير من الاحتياجات، وظنت -كما كثيرين– أن الغياب لن يطول، لكنها وجدت الشهور تتلاحق وطفليها يكبران وملابسهما باتت ضيقة وصغيرة على جسديهما، وليس أمامها من خيار كما تقول سوى "حشرهما حشرًا بهذه الملابس إلى أن يفرجها الله من عنده وأوفر لهما ملابس جديدة".

تستدرك هذه الأم وتقول: "ليس هناك ملابس جديدة بالبلد"، حيث تفرض سلطات الاحتلال قيودًا شديدة على معبر كرم أبو سالم التجاري، وهو المنفذ الوحيد المخصص قبل الحرب للاستيراد والتصدير، فيما دمرت وأعادت احتلال معبر رفح البري مع مصر في بدايات اجتياحها البري لمدينة رفح.

ودمرت قوات الاحتلال غالبية المحال التجارية والأسواق في مدينة خان يونس، بما في ذلك محال الملابس الجاهزة والمستوردة التي كانت تميز هذه المدينة وهي الثانية من حيث الحيوية والنشاط التجاري في القطاع بعد مدينة غزة.

وإزاء ذلك وجدت "أم جاد" نفسها مضطرة للبحث بين أكوام ملابس البالة الشحيحة في المدينة، علها تجد ما يبعث الدفء في جسدي طفليها، وقد حل فصل البرد والأمطار على الغزيين للموسم الثاني وهم يعيشون واقعًا مريرًا مع حرب إسرائيلية ضارية وحصار حاد.

"لم يعد شيء كما كان، وقد عبثت الحرب بحياتنا وأوراحنا (..) ليست هذه خان يونس التي نعرفها، وكذلك باقي قطاع غزة" تقول مريم، وتشير بذلك إلى تغير عادات الناس وتقاليدهم، ولجوئهم مضطرين إلى خيارات تصفها بالغريبة وغير المعتادة من أجل مقاومة الفناء والبقاء على قيد الحياة.

وليس طويلًا صمتت لبرهة قبل أن تكمل بأسئلة متلاحقة: "أين محلاتنا وأسواقنا؟، أين شوارعنا؟، أين بيوتنا وأفراحنا؟ أين حياتنا نفسها؟ نحن لسنا نحن ما قبل الحرب، وقد نجونا لحتى اللحظة بأجسادنا، بينما أرواحنا تنزف".     

"احنا كبار وبنتحمل" تقول مريم وقد استجمعت نفسها بعد أسئلتها التي طرحتها ولم تنتظر إجابة تدركها وتعلمها جيدًا، ولكنها حزينة على طفليها وأقرانهما، "أي حياة وأي مستقبل ينتظرهم؟".. "طيب كيف الأسعار؟" سألتُها بغرض تصويب مسار الحديث نحو الملابس الشتوية، فارتسمت على وجهها ابتسامة قهر وهي تخرج الكلمات ممزوجة بكثير من الوجع: "الاحتلال يقتلنا بالصواريخ والقنابل واحنا نقتل بعضنا بالاستغلال والاحتكار والربا (..) هذه الحرب كشفت مساوئنا".

"هل يعقل أن بلوزة طفل مستخدمة من البالة سعرها 40 شيكل؟" تتساءل، وتتابع: "هي القطعة الوحيدة التي وجدتها بين كومة ملابس بالة.. ترددت في شرائها، فزوجي لا يعمل منذ اندلاع الحرب، وربنا يعلم بحالنا".

ويبرر تاجر الملابس أحمد وشاح ارتفاع أسعار الملابس سواء الجديدة الشحيحة للغاية في الأسواق، أو ملابس البالة المستخدمة، بسبب منع الاحتلال إدخال الملابس للقطاع عبر كرم أبو سالم، وتدمير وحرق غالبية المخازن والمحال والأسواق خلال شهور الحرب الطويلة.

أحمد نفسه كان يمتلك محلًا لبيع الملابس الجاهزة في مدينة رفح ودمرته قوات الاحتلال كليًا، ويعمل منذ نزوحه لمدينة خان يونس في التجارة بالملابس المستخدمة يشتريها ويعيد بيعها، ويكمل في تفسيره لغلاء الأسعار بأن ما تبقى من ملابس وقلة العرض مقارنة بالطلب تسبب في رفع الأسعار، وانعكس ذلك بعزوف الناس عن الشراء إلا من هو مضطر، وذلك بسبب نقص السيولة المالية وتردي الوضع الاقتصادي لغالبية الناس.

وبحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان فإن نسبة الفقر في القطاع ارتفعت خلال الحرب إلى 100%، ونسبة البطالة إلى 80%، في ظل تضرر القطاعات الزراعية والاقتصادية والتي تشكل محركًا رئيسًا للاقتصاد المحلي للقطاع.

ويختصر أحمد هذه النسب بوصفه: "الناس وضعها صعب"، موضحًا أن قطعة الملابس الجديدة التي كانت بسعر 25 شيكلًا قبل الحرب، ارتفع سعرها الآن إلى 140 شيكل في حال توفرت أساسًا بالسوق، وهذا ما جعله يتجه لبيع الملابس المستخدمة، ويكتفي بهامش ربح يتراوح بين 5 و10 شواكل.

وليس بعيدًا عن أحمد، يقف هشام أبو سلطان وأمامه كومة من الملابس المستخدمة. يقول لـ "نوى" إنه يشتريها ممن يضطرون إلى بيع جزء من ملابسهم ومقتنياتهم من أجل تدبير احتياجات أساسية لأسرهم.

وكان لدى هشام محلًا في خان يونس لبيع ملابس مستوردة للأطفال، وقد تعرض ومنزله للتدمير الكلي، ووجد نفسه نازحًا في مدينته، وبائعًا للبالة على الرصيف، وإضافة إلى ما تحدث به أحمد فإن هشام يلقي باللوم فيما وصلت إليه أوضاع الناس وتدهور الحالة الاقتصادية، على اللصوص الذين يستولون على شاحنات المساعدات.