غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:
من الفجر وحتى منتصف الليل، تعمل الثلاثينية أم علي أبو عمشة كطاحونة هواء لا تتوقف عن الدوران. هذا هو روتين حياتها اليومي منذ نزوحها الأخير مع أسرتها من مدينة رفح على الحدود الفلسطينية المصرية، في أقصى جنوبي قطاع غزة، إلى مدينة خان يونس المجاورة.
باكرًا، وقبل الجميع في مدرسةٍ أوت إليها مع أسرتها وعائلتها بالقرب من مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، تستيقظ أم علي (37 عامًا) وتبدأ بإعداد المفتول وهو (طعام فلسطيني تقليدي متوارث على مر السنين والأجيال).
هذه الفلسطينية النازحة من بلدة بيت حانون شمالي القطاع، أمٌ لـ 11 ابنًا وابنة، وزوجة أولى لرجل متزوج من امرأتين ويشارك في إعالة عائلة كبيرة، تضم أيضًا شقيقاته وأشقاءه وأطفالهم. "كانوا 62 فردًا يقطنون في غرفة صفية واحدة بمدرسةٍ غربي مدينة رفح".
تخبرنا أم علي أن إعداد المفتول وبيعه، كانت فكرتها من أجل مساعدة زوجها في "حمله الثقيل"؛ ليتمكن من توفير مستلزمات الحياة الأساسية.
وبالنسبة لهذه الزوجة المكافحة، فإن العمل إلى جانب زوجها ليس بتجربةٍ جديدة، فهي اعتادت على ذلك منذ سنواتٍ طويلة.
قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع، في السابع من أكتوبر/ تشرين أول الماضي، كان زوج أم علي وهو شرطي في حكومة غزة يمتلك مطعمًا ببلدة بيت حانون، وقد اعتادت على مساعدته، وبالنسبة لها كانت تعيش حياة سعيدة ومستقرة.
"لم يعد لدينا مال، وحتى المساعدات الإغاثية اختفت تمامًا بسبب إعادة احتلال معبر رفح بين القطاع ومصر".
دمّرت قوات الاحتلال المطعم ومنزل أم علي وأسرتها، أسوةً بباقي المنازل والمنشآت في تلك البلدة المتاخمة للسياج الأمني الإسرائيلي في أقصى شمالي القطاع. وبحسب أم علي فقد بدأت رحلة عائلتها مع النزوح منذ اليوم الأول للحرب، وتنقلت في محطات عدة قبل محطة النزوح لمدينة رفح، التي استمرت 8 شهور، واستنزفت كل مدخراتهم المالية، "فلجأت إلى صناعة الحلويات الشعبية؛ ليبيعها أطفالي في الشوارع والأسواق من أجل توفير المال للاحتياجات الأساسية" تقول.
وعشية الاجتياح الإسرائيلي البري لمدينة رفح في السادس من مايو/أيار الماضي، نزحت أم علي وأسرتها إلى مدرسة عبد القادر الحسيني المطلة على مجمع ناصر الطبي بخان يونس، وتوزعت هذه العائلة الممتدة على أكثر من غرفة لتخفيف حدة الكثافة والازدحام التي كانوا عليها في فترة النزوح برفح.
تضطر أم علي لتناول المسكنات للتعالي على أوجاعها، كي تستمر في أداء مهامها اليومية التي تصفها بالشاقة.
تضيف: "لم يعد لدينا مال، وحتى المساعدات الإغاثية اختفت تمامًا بسبب إعادة احتلال معبر رفح بين القطاع ومصر، وكان لا بد من إيجاد سبيل للتغلب على الظروف البائسة وللبقاء على قيد الحياة. بدأ زوجي ببسطة شعبية صغيرة لبيع الفلافل، وعلى الجهة المقابلة كنت أنا وضرتي (الزوجة الثانية) على بسطة أخرى لإعداد خبز الصاج وبيعه".
وفي ظل أزمة غاز طهيٍ حادة، وصعوبة توفير الكميات المطلوبة باستمرار، تعتمد هذه الأسرة على نار الحطب والأخشاب، وبحسب تقدير أم علي، فإن أسعاره غالية، إذ تشتري رطل الحطب (3 كيلو غرامات) بعشرة شواقل، فضلًا عما تسببه لها من تداعيات صحية.
وعلى وقع هذا الروتين القاسي، خذلها جسدها في مرات كثيرة، فتضطر أم علي لتناول المسكنات للتعالي على أوجاعها، كي تستمر في أداء مهامها اليومية التي تصفها بالشاقة، وفي ظل هذه الحالة الجسدية لهذه المرأة النازحة بدأت في إعداد المفتول.
تقول: "رغم أوجاعي فكرت بالمفتول لأن دخلنا من الفلافل والصاج لا يكفي لتلبية المتطلبات اليومية الأساسية لأسرتنا".
من الساعة الخامسة فجرًا، وحتى منتصف الليل، وأحيانًا لما يتجاوز ذلك، يمتد يوم أم علي. وبقليلٍ من الشرح تزيد: "يومي يبدأ بإعداد المفتول وبيعه حتى مغيب الشمس. أرتاح قليلًا لنحو ساعة، ثم أبدأ مهمتي الأخرى في إعداد خبز الصاج، ولا أجد بعد هذا اليوم الطويل سوى 4 أو 5 ساعات للنوم، قبل أن تدق ساعة العمل ليوم جديد".
ليست المسكّنات وحدها التي تساعد أم علي على التماسك، ولكنها وجدت في كلمات الإطراء من زبائنها ما يرفع من روحها المعنوية، ويعظم من الدور الجليل الذي تقوم به، والتفاني من أجل أسرتها، فهذا يصفها بـ "الفدائية" وآخر يعبر عن احترامه لها بالقول: "على راسي أم علي"، وتلك امرأة تثني على جودة الطعام ومذاقه، وتمدحها بلقب "الشيف أم علي".
لا تشعر أم علي بالتذمر رغم أيامها الشاقة التي لا تعلم متى ستنتهي، وتختم بالقول: "أوجاعي تتلاشى مع رؤيتي لابتسامة زوجي وأبنائي وباقي أفراد العائلة، وأكبر أمنياتي أن تعود إلى بيت حانون، بلدتها، وتعيش هناك ولو في خيمة على أنقاض منزلها المدمر".