ولادةٌ عند باب مشفى.. وسريرٌ على عتبة "نزوح"!
تاريخ النشر : 2024-08-20 14:53

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

على باب "مجمع ناصر الطبي" وضعت الحامل العشرينية رنا زكي القهوجي مولودتها البكر، بعدما عجزت قدماها عن حملها لبضع خطوات أخرى نحو قسم النساء والولادة بالمجمع.

هناك امتزجت صرخات الألم مع أولى صرخات الحياة لمولودتها "إيلاف"، التي أُدخلت قسم الحضانة، بعد أن خضعت والدتها رنا (22 عامًا) لعمليةٍ جراحية استمرت لنحو ساعة، من أجل معالجة آثار التمزق الداخلي والخارجي الذي أصابها نتيجة هذه الولادة الطارئة.

إلى هنا، ولم تنته حكاية رنا، فالتفاصيل تعكس آلامًا ومعاناة مضاعفة لهذه المرأة التي مضى على زواجها حوالي 3 سنوات، "وكانت وزوجها ينتظران بصبرٍ جميلٍ أن يرزقهما الله بطفلٍ يتوج حياتهما، ويربطهما برباطٍ آخر من الحب والرحمة والمودة"، تقول والدة رنا لـ"نوى".

تقيم رنا مع زوجها في منزل ذويه بمنطقة "الشيخ ناصر" شرقي مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة، التي تستهدفها قوات الاحتلال الإسرائيلي على نحوٍ متكرر بأوامر التهجير والنزوح، وقد تعرضت على مدار شهور الحرب العشرة الماضية لاجتياحات برية عسكرية مدمرة.

كانت رنا تستمع لحديث والدتها مع "نوى"، وقد أعياها التعب عن المشاركة سوى ببعض الإيماءات الممزوجة بأنين ووجع، ونظرها يرنو إلى رضيعتها النائمة داخل صندوق خضار (بكسة بلاستيكية)، بينما هي وزوجها يفترشان الأرض ويلتحفان السماء قبالة بوابة المجمع!

تخبرنا والدة رنا: "في هذا المكان ذاته، جلسنا حوالي 8 أيام خلال النزوح الماضي، وقد تكررت لدينا تجارب النزوح ولم نعد قادرين على إحصاء عددها".

وتتابع: "حدث ذلك قبل نحو ثلاثة أسابيع، وكانت معنا رنا المثقلة بشهرها التاسع من الحمل، ووسط أجواءٍ لا تتناسب مع أي إنسان، فما بالكم بامرأة حامل؟".

تنظر الجدة بعين لابنتها المستلقية إلى جوارها، على قطعةٍ خفيفة من القماش، وتسهب في رواية الحكاية: "بعد هذه الأيام الثمانية انسحبت قوات الاحتلال من "الشيخ ناصر" والبلدات الشرقية من خان يونس، وقد خلَّفت وراءها دمارًا هائلًا، وفقدت رنا الغرفة التي كانت تؤويها وزوجها في منزل ذويه المدمر، وعادت هذه الأسرة لتقيم في خيمة على ركام المنزل".

بمساعدة طبيب أكملت رنا ولادتها في العراء، ومن ثم أُدخلت إلى العمليات للتنظيف وقطب الجروح والتمزق، فيما نُقلت رضيعتها إلى قسم الحضانة.

أيامٌ قليلة وداهمت رنا آلام المخاض، وبعد محاولات من الاتصال لطلب سيارة إٍسعاف باءت بالفشل، نقلت في سيارة مدنية إلى المستشفى، لكنها ولدت على بابها، ولم تستطع الانتظار للوصول إلى قسم النساء والولادة، وبمساعدة طبيب أكملت ولادتها في العراء، ومن ثم أُدخلت إلى العمليات للتنظيف وقطب الجروح والتمزق، فيمانُقلت رضيعتها إلى قسم الحضانة.

ولم تمكث رنا طويلًا في المستشفى بسبب الضغوط الكبيرة عليها، جراء مواكب الشهداء والجرحى التي لا تتوقف نتيجة الغارات والاستهدافات الإسرائيلية المستعرة.

تتابع الوالدة: "عدنا برنا إلى منزلها، أقصد إلى خيمتها، لكن قوات الاحتلال لم تمهلها طويلًا لترتاح وتُشفى من آلامها وجروحها، فرجعنا إلى هنا، وها نحن ذا للأسبوع الثاني نقيم في الشارع".

على "عتبة" محال تجارية قبالة البوابة الشرقية لمجمع ناصر الطبي تقيم هذه الأسرة، بلا أدنى مقومات للحياة، وقد نزحت من منطقتها على عجل، ولم تتمكن من حمل شيء، أسوة بعشرات الآلاف من سكان تلك المناطق التي تخضع في هذه الأثناء لعملية عسكرية إسرائيلية برية واسعة.

بضع كلمات بسيطة تلفظت بها رنا وتساءلت: "ما هذه الحياة؟"، وتشير بسؤالها الاستنكاري إلى ما تعانيه كامرأة أنجبت لتوها وتقيم في الشارع.. تنام على قطعة قماش بالية، وتعاني من أجل دخول المرحاض، ولا تجد ما تقتات به من أجل إرضاعِ طفلتها.

صمتت رنا وهي تخرج أنين وجع مع أنفاسها، وعادت والدتها للحديث لتستكمل فصول هذه الحكاية المؤلمة: "والله إني أشعر بوجعها لكن ما باليد حيلة، شو أعمل؟ ما في أكل وشرب وما في مصاري والأسعار صارت مثل النار، وما حدا راحمنا ولا حاسس فينا".

المرصد الأورومتوسطي: الاحتلال الإسرائيلي قتل 2100 رضيع فلسطيني تقل أعمارهم عن عامين، ضمن نحو 17 ألف طفل فلسطيني قتلهم منذ اندلاع حرب الإبادة.

وبحسب آخر تحديثات صادرة عن "المكتب الإعلامي الحكومي"، فإن زهاء 60 ألف امرأة حامل معرضة للخطر نتيجة انعدام الرعاية الصحية اللازمة لهن، وتردّي خدمات المتابعة الدورية خلال شهور الحمل.

عندما وضعت رنا مولودتها "إيلاف"، لم تجد ما تستر به جسدها الصغير، لولا أسرة تبرعت لها ببضع قطع من ملابس طفلها، ولأن الحديث عن "سرير" بات ترفًا في زمن هذه الحرب المجنونة، فإن رنا لم تجد لطفلتها سوى "بكسة" هي عبارة عن صندوق بلاستيكي حولته إلى سرير، تضع به مولودتها لتنام بينما يحيط بها الغبار والحشرات، ومخاطر الإصابة بالأمراض.

ووفقًا لتوثيق هيئات محلية ودولية، فإن 115 رضيعًا ولدوا واستشهدوا خلال الحرب نفسها، نتيجة إصابتهم بنيران قوات الاحتلال، فيما استشهد 36 طفلًا نتيجة المجاعة وسوء التغذية.   

وتخشى رنا على مصير مولودتها التي انتظرتها لثلاث سنوات، وتأمل أن يكتب لها القدر النجاة مما وصفتها بـ "المحرقة".

ويُظهر توثيق "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" ومقره جنيف، أن الاحتلال الإسرائيلي قتل 2100 رضيع فلسطيني تقل أعمارهم عن عامين، ضمن نحو 17 ألف طفل فلسطيني قتلهم منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.