لا أسرار في المخيم.. "كله على المكشوف"
تاريخ النشر : 2022-11-02 08:59

غزة : 

كانت الأربعينية أم فارس، تصيح صباحًا على ابنها لإحضار علبة فول لتناوله على الإفطار، لكن عناده جعلها تصرخ عليه مرارًا إلى أن أخرج جارها رأسه من الشباك صوب منزلها ونادى "دخيلك يا ولد، رد على أمك وجيب الفول، بدي أعرف أنام".

فغرت السيدة فمها، وقطّبت حاجبيها، لكن لم تبدِ أي مفاجأة، فهذا المشهد يكاد يكون يوميًا في حياة أم فارس التي تعيش في أحد أزقة مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة، الذي لا تتجاوز مساحته 104 كيلومترات مربعة، ويفيض عدد سكانه على 120 ألف لاجئة ولاجىء.

تتشابه بيوت المخيم المتجاورة في شكلها الخارجي من رمادية واهتراء، كما تتشابه ظروف النساء اللواتي يعشن فيه حالة فقدان الخصوصية، ما جعل العائلات وكأنها تعيش في بيت واحد.

المرور بين أزقة المخيم الضيقة تسمع خلالها دون جهد صوت انشغال النساء في المطابخ، وترتيب البيت، وإشعال الغاز، وتدريسهن للأطفال، وصراخهن على الصغار، حياتهن هكذا، لا سر في المخيم، ولا سرية حتى في الأحاديث العائلية.

تقول أم فارس: "تربيت منذ الصغر في المخيم، وعشت كل تفاصيل حياتي هنا، تزوجتُ وانجبت فيه أيضًا، أحب المخيم لكن لا أحب تفاصيله من انعدام الخصوصية لنا كنساء بسبب تلاصق البيوت والكثافة السكانية الهائلة، فالخصوصية هنا أشبه بالترف".

تضيف السيدة:" أشعر أنني وجيراني نعيش في منزل واحد، أسمع أحاديثهم، ويسمعون أحاديثنا اليومية، حتى بكاء الأطفال في الليل، وتربيت أمهاتهم عليهم كي يناموا، ولا أبالغ إذا قلت إنه في حال استيقظ أحدهم ليشرب ماءً في الليل نسمع صوته، ليس لأن الصوت مرتفع، بل طبيعة بيوت المخيم هكذا، لا تحفظ الخصوصية".

حياة المخيم كما ترى أم فارس -رغم كل ذلك- لا تخلو من بعض المحاسن، فالجارات متعاونات في جميع المناسبات، وخاصة في مواساة بعضهن في الأتراح.

ووفق إحصائية لمركز "دراسات اللاجئين"، فإن الاحتلال الإسرائيلي هجّر نحو 57% من الفلسطينيين في عام النكبة 1948م، أي نحو 850 ألفًا، وتضخّم هذا العدد إلى 9 ملايين لاجئة ولاجىء.

ويشكل اللاجئون النسبة الأكبر من عدد سكان قطاع غزة البالغ 2 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 365 كيلو مترًا جنوب فلسطين، تحاصرهم قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ 16 عامًا.

الحديث عن الحياة في مخيم المغازي وسط قطاع غزة، لا يختلف عن غيره من المخيمات الثمانية في القطاع، من فقرٍ واكتظاظ وفقدان للخصوصية وضعف في الاهتمام الرسمي.

باستحياء، تتحدث الشابة ريهام (34 عامًا) عما تعانيه من فقدان للخصوصية والحرية، ما جعلها تسأل نفسها مرارًا: ماذا لو كنت أعيش في غير المخيم؟!

تبدو ريهام ممتعضة وهي تحكي عن حياتها: "صدقًا لا أشعر بالخصوصية هنا، سواء على الصعيد الشخصي أو على صعيد عائلتي، حتى في أبسط الأمور، تخيلوا أنه حتى لو دخلت الحمام لقضاء الحاجة يسمعني الجيران، وهذا يسبب لي إحراجًا شديدًا".

تعمل ريهام معلمة على بند العقد المؤقت، وهي بحاجة للخروج المبكر يوميًا في أبهى صورة، وتحتاج للاهتمام بنظافتها الشخصية، لكن قصة الاستحمام تعكر صفو كل شيء خاصة في الصيف، فهي إما تضطر للخروج دون استحمام إن كان جيرانهم مجتمعين، وهذا يزعجها، أو تضطر للاستحمام في وقت متأخر من الليل عندما يناموا جميعًا.

 تكمل: "هذا ليس كل شيء، فأنا مضطرة غالبًا للبس ملابس محتشمة في المنزل حتى في فصل الصيف، كوني أعيش مع أشقائي الشبان السبعة في منزل يغطيه الزينكو"، ويضم منزلها ثلاثة غرف فقط مما يقيد حريتها، وليس بمقدور عائلتها بناء طابق إضافي.

كل ما تأمله ريهام أن تعيش في غرفة مستقلة، بمنزل يحفظ خصوصيتها دون أي قيود من عائلة أو جيران.

أستاذ علم الاجتماع السياسي د.حسام أبو ستة، يوضح بأن المخيم نمط سكاني اجتماعي وثقافي فرضته خصوصية الحالة الفلسطينية بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1948، وهي حالة استمرت حتى الآن، "وشهدت الكثير من التحولات على المستوى الاجتماعي والثقافي".

وقال: "إن حياة المخيم لها انعكاساتها على مجمل العائلات اللاجئة، خاصة المرأة، كونها جزء من العائلة، ونتيجة لطبيعة النمط السكاني الذي يتميز بالاكتظاظ والخصوصية شبه المعدومة، وهو ما حرم المرأة من التمتع بحقها في امتلاك مساحة الخصوصية للعيش بأريحية، وأوجد مشكلات اجتماعية ونفسية مباشرة وغير مباشرة، وأثّر على صحتها النفسية والاجتماعية".

أما المرشدة النفسية سمر صالح، فأكدت أن اكتظاظ السكان والمنازل في المخيمات بقطاع غزة ليس حدثًا طارئًا، أو تجربة مؤقتة، فذلك له تبعات متتالية، تنعكس على المرأة خاصة كونها تبقى في المنزل لفترة طويلة أكثر من الرجل، وتعاني تبعات نفسية واجتماعية ومعيشية، لا سيما في ظل انعدام الخصوصية في مملكتها الخاصة بين جدران منزلها.

ونبهت إلى أن الكثير من النساء في المخيمات يعانين من ضغوط مجتمعية تؤثر على صحتهن النفسية، "ليس هناك بدائل ومضطرة للبقاء في المخيم الذي تربت فيه"، ومنهن من يتعرضن لعنف لفظي أو جسدي بسبب حالة الفقر التي تعيشها العائلة، وكل هذه الظروف تشكل عبئًا لا يمكنها التصدي له -يا للأسف- لأنه نمط حياة مستمر.