في "هندسة الاضطهاد" الإبادة لا تعني الموت فقط
تاريخ النشر : 2022-09-14 14:02

"يظنُّ البعض أن مفهوم الإبادة مرتبط بالموت الخالص، لكن إخضاع مجموعةٍ من الأشخاص لظروفٍ غاية في البؤس، وتدمير كيانهم، وكينونتهم، هو أحد أنماط الإبادة البطيئة"، وفق هذا السياق تناولت الكاتبة نور بدر قضية المصابات الفلسطينيات بسرطان الثدي، ضمن كتابها (هندسة الاضطهاد وسياسات التحكم بالأجساد الصامتة).

تقول الكاتبة: "إن البحث يرتكز على تجاوز فكرة اختزال المرض ببعدِه الصحي البيولوجي، إلى البحث فيما وراء المرض، في محاولة تفكيك السياق والتفاصيل في النظرية والممارسة، عبر تحليل مجموعة من الهياكل كالسياق الاستعماري، والمؤثرات المجتمعية، ومن ضمنها منظومة الصحة – جنسانية الجسد. بالإضافة للعنف الرمزي (الآلام)".

هدفت بدر من خلال بحثها إلى الخروج من فكرة بوتقة القهر المتجانس، إلى تفكيك القهر الذي تعايشه النساء الفلسطينيات بالاستناد على المواقع المادية التي يتواجدن بها، منتجةً من خلال ذلك "سرديةً"  قامت على تفكيك الهياكل التي تقف خلف مرض السرطان، وما تركه من بصمات على أجساد النساء المصابات به، مستعينةً بإجراء 30 مقابلة مع نساء مصاباتٍ به في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتوثيف شهاداتهن، ومعاناتهن من أجل الحصول على حقوقهن في الشفاء، بالإضافة إلى 10 مقابلات مع باحثين في مجال الصحة العامة، للابتعاد عن التوثيق النُخبوي.

"الأسيرات الفلسطينيات متواجدات في حيز تملك فيه سلطة الاحتلال سلطة مطلقة. هذه السلطة تجسد مفهوم السيادة على المكان وعلى الأجساد التي تتحرك داخل المكان. هناك داخل بوتقة السجن يتجاوز القهر النسوي فكرة الإبادة السريعة. هناك تتعرض الأسيرات لإبادةٍ بطيئة، وهذه الفلسفة التي أقامت عليها الكاتبة نور بدر كتابها، كما تناولت النساء المصابات بسرطان الثدي، أولئك اللواتي يبحثن عن حقهن في الوصول للشفاء، ويتعرضن خلال هذه الرحلة لكثيرٍ من الاضطهاد.

سردت بدر خلال لقاء نظمته مؤسسة "روزا لوكسمبورغ" عبر تقنية "زوم" للحديث ومناقشة الكتاب، روايات بعض الحالات المرضية التي قابلتها بغرض البحث. إحداهن كانت تدعى نور الفيومي، وقد منعها الاحتلال من العلاج خارج القطاع، فتوفيت جراء ذلك.

أما رنا فمريضة سرطان من الضفة، كانت في مستشفى بيت جالا، وبعد أن استكملت جزئية العلاج الأولى كان يجب أن تحصل على تصريحٍ لاستكمال العلاج الإشعاعي، لكن الاحتلال رفض منحَها إياه بحجة الرفض الأمني، وبواسطة المستشفى تمكنت من الحصول على تصريح ليوم واحد، واضطرت أن تتخفى بعد ذلك طوال فترة العلاج.

تشرح بدر: "في هذه التجارب، يدور الحديث عن فكرة الإبادة السريعة المتعلقة بالبعد البيولوجي، الذي كانت النكبة الفلسطينية وما تزامن معها من قتل وتشريد ذروتها، لكن في الواقع هناك العديد من أنماط الإبادة متغلغلة في المجتمع الفلسطيني، وقد لا نراها بشكلٍ علني. هي لا تبدو واضحةً للعيان".

وتورد مثالًا على ذلك "العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة"، "وقد ينظر له البعض على أنه أحد أشكال الإبادة السريعة، لكن ما بعد انتهاء العدوان لم يتطلع أحد إلى الذي يحدث بالنساء المريضات اللواتي يُمنعن من حقهن في الوصول للعلاج"، حتى أن أدويتهن قد لا تكون متوفرة في أغلب الأوقات، وأمام كل هذا لا يصل صوتهن، وهذا هو ما نطلق عليه اسم "الإبادة البطيئة".

وترى الكاتبة أن "إسرائيل" تملك إدارةً للموت، "فهي حينما تسمح بدخول جزء من المريضات للعلاج لديها، أو في القدس، وفي المقابل تمنع أخريات، فهي بذلك تدير هذا النمط من أنماط الموت" تزيد، مستدركةً بالقول: "وحتى من يسمح لهن بالمرور للعلاج، يُجبرن على اتخاذ أوضاع معينة في التفتيش".

وتتابع: "قالت لي إحداهن: كدت لأموت عطشًا، وحينما طلبتُ الماء من المجندة بادرتني بحركة مخلة، وهنا نستطيع القول: إن هذا كله يندرج ضمن ما يسمى بإدارة الموت الفلسطيني التي تتبعها دولة الاحتلال".

هنا، علينا أن ندرك أن الاحتلال لا يوجد لديه إنسانية، هو يتبع سياسةً لإدارة الموت، وهي ما أطلقت عليها في الكتاب اسم (السياسة الحيوية)، بمنطق المهيمن على المكان، وبالتالي على الأجساد التي تتحرك داخل هذا المكان.

في الجزء الثاني من الكتاب، تناولت بدر منظومة الصحة الفلسطينية، إذ أظهرت نتائج المقابلات أن المنظومة تدار بعشوائية، فـ 28% من المبحوثات، اكتشفن أنهن مصابات بالسرطان عن طريق الصدفة!

في التفاصيل، بعد أن عرفن أنهن مريضات، وخلال ترددهن على الأطباء، أكدوا لهن مرارًا أنهن سليمات، وهذا بدوره فاقم وساهم في تفشي المرض.

تحدّثت النساء عن الفضاءات الطبية في فلسطين، فإحداهن حينما تم تحويلها لمستشفى بيت جالا، كان ذلك "بشكلٍ ضمني" وكأنها ذاهبة للموت، وهذا يدفعنا للتساؤل: لماذا تحظى بعض المستشفيات بثقة المرضى؟! الإجابة هنا أن الإهمال المعروف في هذه المستشفيات هو مبعث الخوف من دخولها.

فيما يتعلق بجنسانية الجسد، تقول الكاتبة: "تناولتُ في هذه الجزئية كيف يتم التعامل مع النساء مستأصلات الثدي، أو المتوقع استئصاله لديهن، وتبيّن أن المجتمع ينظر لهن وكأنهن ناقصات الأنوثة، وللأسف هن أنفسهن تبنّين ذات الفكرة، لا سيما وأن أزواجهن -غالبًا- هم أول الرافضين لهن، وأغلب من تمت مقابلتهن، تعرضن للخيانة الزوجية أو زواج الزوج من أخرى.

يروي الكتاب حكاية (30) امرأة من مريضات السرطان، واضطهاد المجتمع لهن، لكونهن مريضات، سواء من الزوج الذي يمارس العنف بحق زوجته المريضة، بضربها حينًا، وتهديده الدائم لها بالزواج، حتى أنها بدأت تفكر فعلياً بالانتحار!! تقول بدر: "الاضطهاد الممارس تعدى فكرة امرأة ورجل، لتصورات متماهية داخل المجتمع. حالتان تحدثتا عن تحسس نساء أخريات لأجسادهن ليتأكدن أن جزء من جسمهن بالفعل تم استئصاله".

خلال المقابلات بعض النساء تحدثن عن لجوئهن لإخفاء المرض خشية العقاب المجتمعي والوصمة.

في الجزئية الأخيرة من الكتاب تناولت الباحثة (الألم)، قالت إحداهن: "لو كانت الحرب خارجية كنا قد نتمكن من الاختباء منها في أي مكان، لكنها حرب داخلنا".

تعلق بدر: "في اللحظات القصوى للألم تصبح اللغة عاجزة وفقيرة، وتكون الطبطبة والعناق، غايةً في الأهمية وتخفف من حدة الألم".

الألم مرتبط أيضاً بـ(الكيماوي). لا نستطيع أن نفهم تجربة السرطان دون الإشارة لألم الكيماوي، حينما تكون جل أحلام المريضات العودة للحياة الطبيعية ما قبل المرض. "أن ترجع همومنا تنظيف المنزل، وتدريس الأطفال فقط". تختم بدر.