في كفن خليل جسده.. وروح أمه
تاريخ النشر : 2022-08-07 14:29

غزة:

"يا حبيبي يا يما، يا ريتني نمت جنبك يما"، تصرخ السيدة نجوى وهي تلقي بجسدها فوق جثمان ابنها الشهيد خليل أبو حمادة، وحيدها الذي انتظرته لسنوات، وقتله الاحتلال الإسرائيلي بلحظات!

وسط جموع المشيِّعين، وأمام أعين كاميرات الصحافيين تتابع أم خليل حديثها باكيةً بينما تحاول احتضان جسده المسجّى في الكفن: "يا ريت أضل جنبك يما، عمرك ما فارقتني ولا عمري فارقتك، وين رايح يا حبيبي".

خليل الذي يتحدث المشيّعون عن دماثة خلقه وأدبه، لم يكن ابنًا عاديًا، بل شريك أمه في كل تفاصيل يومها. على وقع ما يحب ويريد تصيغ تفاصيل يومها، كيف لا وهو وحيدها الغالي الذي انتظرته "حلمًا" 11 عامًا.

الوداع الأبدي لوحيدها. إنه انتزاع الروح بأقسى صورة. ابنها الذي عانت "الأمرّين" من أجل إنجابه بعمليات زراعة متكررة، عاش معها 19 عامًا. لقد خطّطت لحياته ومستقبله كما لو كانت ستموت قبله، لكن طائرةً حربيةً جاءت برأيٍ مختلفٍ بشع "إلى هنا ويكفي.. إلى هنا تنتهي آمال أمك".

في التفاصيل: قصفت طائرة حربية إسرائيلية مساء أمس، مجموعةً من المواطنين في مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمال قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد خمسة، بينهم أربعة أطفال، والشاب خليل حمادة، وحيد أمه (46 عامًا) الذي رزقت به بعد عقد ونيف من الانتظار والحلم.

وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي شن عدوانًا جديدًا على قطاع غزة الجمعة الماضية، أسفر بشكل فوري عن استشهاد القيادي في حركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري، بالإضافة إلى طفلة تسكن في العمارة السكنية التي تم استهدافها وسط مدينة غزة.

بالدموع ودعت نجوى فلذة كبدها، وعادت إلى البيت تحتضن ملابسه وتشم عطره فيها، فابنها الذي عانت مرارة عمليات الزراعة، وإبر التثبيت، وأوجاعًا لا حصر لها حتى تكحّل عينيها برؤيته، لم يعد هنا، بل لن يعود أبدًا. تعود بالذاكرة إلى تاريخ ولادته عام 2003م، عندما لم تهنأ بفرحتها بعدما خطف منها الاحتلال أمها "خضرة" قبل ذلك بثلاثة أشهر.

شقيقتها د.مروة أبو حمادة كتبت القصة على صفحتها في "فيس بوك" فقالت: "لا أعرف من أين أبدًا؟ لكن ما أعرفه هو معاناة أختي والدة الشهيد خليل أبو حمادة، التي بدأت منذ كانت عروسًا ابنة 16 سنة. كانت تحاول إنجاب طفل يحمل اسمها واسم والده، وبعد عدة محاولات زراعة لطفل أنعم الله عليها بخليل".

في الثالث والعشرين من أيلول/ سبتمبر من عام 2003م رأى خليل النور، ولكن الفرحة كانت منقوصة، فقبلها بثلاثة أشهر، وتحديدًا بتاريخ 10/6/2003م، استشهدت خضرة أبو حمادة والدة نجوى، التي حُرمت فرحة رؤية حفيدها، بعد أن ذاقت مع ابنتها مرارة السعي لإنجاب طفل.

تولت نجوى –وفق مروة- مهمة رعاية إخوتها، وأخذت على عاتقها أن تكون لهم أمًا ثانية، وصديقةً في ذات الوقت، تدعمهم وتشدّ من أزرهم، ثم سرعان ما عادت لتواصل دراستها، وفي سن الأربعين التحقت بكلية التمريض لتتخرج منها حديثًا، وتحصل قبل أسبوعين على وظيفة قابلة. لقد ربّت خليل وأحسنت تربيته، فأنهى الثانوية العامة، وبدأت الاستعداد لمستقبله وتزويجه.

تضيف: "طارت شقيقتي فرحًا عندما حصلت على الوظيفة، فالوقت حان لتجهيز البيت من أجل عرس خليل، وبدأت الاستعدادات للفرح بوحيدها، وقبل أن تزفّه عريسًا، زفّه الوطن كله شهيدًا".

كانت تحلم به يرتدي بدلة عرسه لكنه ارتدى الكفن، أرادوا رفعه فوق الأكتاف وزفّه بأغنيات التراث، فرُفع على الأكتاف شهيدًا "مسجّى" وهتفوا: "الله أكبر".

بعدما استشهد خليل عادت نجوى وحيدة، مرارة الفقد تقتلها، ووجع الفراق الأبدي ينخز قلبها. ستعيش في بيتها البارد دون ضحكات خليل، وعليها أن تلغي مرغمة مراسم فرحٍ رسمتها في خيالها.. صور أحفادها المرتقبين، وأسماءهم، وضحكاتهم من حولها.. وذلك الحضن والقبلة التي ألفتها من خليل طوال 19 عامًا، قبل أن يواريه التراب إلى الأبد.