رقعةٌ في ثوب "التفوُّق" بمنزِلَي آية وسندس
تاريخ النشر : 2022-08-01 14:54

قطاع غزة:

"هنا أحبس ذكرياتي كلها" تقول آية أبو الخير وتبتسم. داخل غرفةٍ لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أمتار، وعلى فراشٍ أرضيٍ ذاب عمره كانت الحكاية. فتاةٌ بعمر "زهرة" تدرس لامتحانات الثانوية العامة دون أي امتيازات. تحت سقف الزينكو "تتقلّى" بحرارة الصيف وتتجمّد بصقيع الشتاء. لا أحد يدري عنها وهي القابضة على فقرها، الطامحة لتفوقٍ ينقلها وعائلتها إلى حياةٍ ينسون فيها ضنك المعيشة ويتسع فيها الرزق.

"لم تكن تأخذ مصروفًا" أقسمت أمها، ولم تكن تمتلك تلك الغرفة الفارهة المهيأة للتفوّق. هنا كل ما هو موجود "فرشات إسفنجية مهترئة، وخزانة حديدية لا تصلح إلا لغرف الصف، "لكنها رغم كل شيء أبت إلا أن ترفع رأسي ورأس والدها الذي يحبها، وحصلت على معدل 99%" تستدرك.

ابنة خالد حصلت على معدل امتياز، ورغم ذلك لم يعلم أحد عنها شيئًا في يوم إعلان النتائج. تقول الفتاة بحرقة: "لم نجد أحدًا مهتمًا. أساتذتي فقط هم من باركوا لي تفوقي. كنتُ أرى الهدايا والتبريكات تتساقط على طلبة الثانوية من المتفوقين، وأسأل نفسي: لماذا أنا لستُ مثلهم؟ ألهذه الدرجة يهتم الناس بالمظاهر؟ ألأنني فقيرة لم يكترث أحد؟".

في اليوم الثاني لإعلان النتائج انتشرت قصة آية في وسائل الإعلام. خرجت تقول بحرقة: "لم يسأل بنجاحي أحد. والله إنني تعبتُ حتى حصلتُ على هذا المعدل، ولم أتوقع هذا البرود في الفرح لأجلي".

لم يكن من العدل -وفق آية- أن تطلب من أهلها توفير أي شيكل من أجل "الدروس الخصوصية"، فهي تعلم تمامًا أن لا مجال إلا للأولويات، وأن طلبًا كهذا "سيُوجع أهلها الذين يحبونها كثيرًا"، لكن ثقتهم بها كانت عالية. "كانوا يعرفون أن طموحي لا حدود له، وأنني سأفعلها وأتفوق لكنهم لم يتوقعوا هذا المعدل المشرف جدًا".

الصحفي الذي نثر حزن آية عبر الملأ، خرج عبر صفحته اليوم يعلن أن الفتاة حصلت على منحة كاملة غير مشروطة لمدة 4 سنوات من الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية لدراسة تخصص التمريض، مُرفقًا الخبر بصورةٍ لآية، وضحكةٍ من القلب.

هنا تقف لتسأل نفسك: هل بات على كل طالبٍ متفوق لأسرةٍ تستر فقرها الحيطان، أن يظهر عبر الإعلام ليحكي واقع معيشته الصعب كي يحصل على التضامن المطلوب؟ أو يضمن إكمال دراسته الجامعية بمنحةٍ من هنا أو هناك؟

سندس شيخ العيد، متفوّقة أخرى، حصلت على معدل 98,4٪ في الفرع العلمي، لكن فرحتها تحوّلت إلى "مأتم" والأسباب عديدة.

بكت الطالبة وأبكت أسرتها لأن القدر لم يكتب لطموحها أن يتحقق كأولى على مستوى الوطن. لقد كانت تأمل ذلك هربًا من التكاليف الباهظة لدراسة الطب، وهو ما لا يشعر به الأوائل من الحاصلين على المنحة الكاملة.

على وقع الزغاريد، وإكرامًا لعناق الأحبة، حملت همها وكتمت غيظها، تمامًا كما كتمت تبعات الفقر المدقع الذي ولدت وعاشت فيه، وقاومته لأجل لحظة التفوق لعلها تُفرج، وتدرس بمنحةٍ تُعفي العائلة من التكاليف الجامعية.

سندس ابنة محمد اجميعان شيخ العيد -وهو مريضٌ وعاطلٌ عن العمل- تسكن مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، وهي الخامسة بين إخوتها والثامنة بين أخواتها.

تخبرنا شقيقتها الذي أخذت تطبطب على قلبها لاعتقادها أنها لن تدرس الطب البشري "طموحها منذ الصغر": "أختي تفوقت في دراستها منذ دخولها المدرسة. لم يقل معدلها ولا لعام واحد عن الـ 99 في المئة".

وتزيد: "واجهت كل الصعاب التي مرّت عليها طوال عام الثانوية العامة، أبرزها تعطل "بطاريات" الكهرباء البديلة، فكانت تعتمد على ضوء الشاحن مع حلول المساء. لم يكُن الوضع مريحًا لعينيها ولا لنفسيتها. صدقًا لقد قاوَمَت حتى النفس الأخير".

وليس هذا فحسب، بل عندما احتاجت إلى بعض الدروس الخصوصية راحت تطلبها من بعض المدرسين مقابل مبلغٍ رمزي تجمعه من مصروفها الشخصي.

ووفق شقيقتها، فإنهم لم يردّوها خائبة، بل كان اهتمامهم بها كبيرًا لأنهم يعرفون إلى أي حد تتعب وتقاتل لأجل الحصول على علامة ترفع اسمها واسم عائلتها عاليًا، وتؤهلها لدراسة الطب.

في وضع العائلة حقيقة، لا يوجد إمكانيات لدراسة الطب، ولعل أكثر ما يوجع قلب الفتاة أن أحدًا لم يتواصل معها، "لم يأت الصحفيون إلى منزلنا، لم يلتقط أحد منهم لي صورًا ولم ينشروا مقاطع فيديو، لم أحصل على أي هدية.. فرحتي ناقصة وفقيرة كحالنا".

ولا تكف العائلة عن توجيه مناشداتها لكل من يستطيع المساعدة، من جهاتٍ مسؤولة، وجامعات، ومؤسسات من أجل توفير منحة لدراسة الطب البشري. "حتى اللحظة لم نلمس سعادة حقيقية بعيون سندس، كل ما تحتاجه أن يسندها أحدهم بمنحة دراسية، هل هذا كثير على طالبة متفوقة؟" تتساءل شقية سندس.