قطاع غزة:
في زقاقٍ يختنق بساكنيه في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، يمكن سماع صوت الفرح جليًا في منزل الحاجة أم عبد الله.
في أول أيام عيد الأضحى، ستهلّ بشائر الفرج لتطرق بابها مع ساعات الصباح على هيئة لقمة هنية يمكن أن تقدمها لأطفالها السبعة ببركة "أكياس لحم" ستصلها من المقتدرين وفاعلي الخير.
بالكاد تأكل عائلة السيدة المكونة من ٩ أفراد (لو أضفنا إليها زوجها وحماتها المسنة) اللحم، مرةً في الشهر، وهذا في أحسن الأحوال إن وجد زوجها عملًا في السوق كعتّال أو عامل باليومية. "وغالبًا لا تزيد كميتها عن أوقية تضيع بين كمية خضراوات كبيرة" تقول لـ "نوى".
هذا يجعل عيد "الأضحى" موسم فرحة حقيقية تزور بيتها بكمية من اللحم "يمكن أن تصل لخمسة كيلوات مرة واحدة" تزيد بانفعال.
حتى انتهاء أيام العيد الأربعة، يمكن للسيدة الأربعينية توفير اللحم لشهر وزيادة، لولا أزمة انقطاع الكهرباء المعتادة في الصيف، التي تزيد مدة انقطاعها عن ثماني ساعات بمعدل نصف المدة! تقول مبتسمة: "سأصنع اليوم الفتة، خلي الأولاد ياكلوا وينبسطوا". في ذات الوقت تأكل أم عبد الله هم الأخبار المتواصلة التي تتحدث عن احتمالية عدم قدرة وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين (أنروا) على استمرار تقديم المساعدات الغذائية لحوالي مليون و٢٠٠ ألف إنسان في قطاع غزة، وتشمل الدقيق، والحمص، والأرز، والسكر، والزيت، والحليب، والعدس، فهي تعتمد عليها اعتمادًا كليًا في تدبير مأكل عائلتها الكبيرة.
ليست أم عبد الله وحدها، فنحو مليون ونصف مليون إنسان من سكان قطاع غزة، البالغ عددهم مليونين و300 ألف نسمة، باتوا فقراء بفعل الحصار والقيود الإسرائيلية المفروضة على القطاع منذ عام 2006م، وفقًا للمرصد الأورومتوسطي، وغالبيتهم يرون "عيد اللحمة" باب فرج مشرع في وجوه عائلاتهم التي تذوق مرارة الحصار والفقر والبطالة، وترتقب الموت في أي عدوان إسرائيلي جديد قد يُشن في أية لحظة.
أبو سالم الذي اكتفى بذكر كنيته على سبيل المثال. خمسينيٌ أقعدته إصابته في عدوان عام ٢٠١٤م عن العمل في ورشة للحدادة "ومنذ ذلك الحين أعتمد على مخصصات الشؤون الاجتماعية ومساعدات أهل الخير".
للرجل أسرة مكونة من ١٢ فردًا، تعيش في بيت مكون من غرفتين وصالة، "وطالما أن بابنا مغلق علينا فيمكن أن نعيش على الخبز والدقة" يقول.
لا يخفي الرجل انشراحه بقدوم الأضحى، ويضيف "فبالكاد نأكل اللحم في بيوت العزاء أحيانًا، وأحيانًا في أعراس الأقارب، أما أن أشتريه فهذا صعب إلا كل حين وحين".
يتابع "ليس الأمر بهذا السوء، فأنا أعتمد جزارًا آخذ من عنده اللحم بالدين، والحق يقال لقد تحملني كثيرًا، منذ انقطعت مخصصات الشؤون".
وللمرة الأولى منذ 16 شهرًا بالتمام والكمال، أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية قبل عدة أيام، صرف شيكات الشؤون الاجتماعية لمستحقيها، "وهي عبارة عن مبلغ لا يسمن ولا يغني من جوع، وبالكاد سددتُ به جزءًا من ديني المتراكم لصاحب البقالة القريب لأضمن استمرارية تعامله معي فيما بعد" يقول.
الجزار حسين أبو هنا، وهو صاحب مزرعة للأغنام والعجول شرقي حي الشجاعية شرق مدينة غزة، تحدّث عن حالاتٍ تصله بالعموم، يطلبون منه العظام الزائدة لصنع المرق والطبخ به، وبعضهم يطلب فوارغ كبش تبرع بها أصحابها ولا يريدونها، "وآخرون يوصونني برفع زيادات اللحم وفتاته لعلهم يسدون رمق أطفالهم واحتياجاتهم الجسمانية من البروتين الحيواني" يتابع.
لا يرد الرجل أحدًا كما يقول، "بل وأعطي بما أقدر. هناك حالات الله وحده أعلم بها" يعقب، مؤكدًا أن موسم الأضحى بمثابة منقذ لهذه الفئة من الناس، "وهي ليست بقليلة"، مناديًا بإنهاء الانقسام، الذي عده سببًا رئيسًا بعد الحصار، لما آل إليه "وضع الناس المُبكي" في غزة.
ويزيد: "في العيد وغير العيد، يمر أصحاب الأسر المستورة للسؤال عن عظام أو رأس كبش مشفّى من اللحم، أو فوارغ، ويأخذونها مجانًا. بدوري أحفظها لهم فهم يوصونني بذلك باستمرار: لا تنسانا يا حسين".
ويكمل: "فرحة المستورين وانتظارهم لعيد الأضحى لا توصف، يقشعر بدني كلما لمستُ دعوات قلوبهم، رغم أنني لا أعد نفسي قد ساعدتهم، بل هو رزقٌ من الله سخّرني لتقديمه".
هكذا حوّل الاحتلال غزة إلى سيول من المآسي، وحياة تسير في محطات انتظار. انتظار الماء، وانتظار الكهرباء، وانتظار الدواء، والكوبونات، وفرص العمل، والسفر، وتصاريح العمل، وكل فرص العيش، وحتى الفرح والأعياد! "فأهلًا بعيد "اللحمة" الذي يرسم البسمة على وجه البائسين في هذه البلاد" تختم السيدة أم عبد الله ضاحكة.