عن كواليس التغطية الصحفية بعد منتصف الليل..
تاريخ النشر : 2022-04-26 13:10

قطاع غزة:

"بكل الأحوال لا نستريح. فهذه البلاد بيئة خصبة للأحداث السياسية، وإمكانية تفجّر الأوضاع فيها أكبر بكثير من إمكانية العيش بأمان. إنه الطبيعي في حياةٍ تحت احتلال" يقول الصحفي نضال الوحيدي لـ"نوى".

هنا تختلف كواليس التغطية الصحفية، فلا نتحدث عن تصوير مؤتمرٍ أو ورشة عملٍ أو مبادرةٍ أو قمة. هنا نتحدث عن تصوير "الموت" على هيئة نارٍ ودماءٍ وأشلاءٍ ورمادٍ وركام! هنا يخرج الصحفي في ليله ليأتي بدليل جبروت "إسرائيل" "شهيدًا" إلى أن يعود، هنا يكتب الصحفي ويصوّر ويُذيع لأنه "يقاوم احتلال". 

يعمل نضال مصورًا صحفيًا منذ 13 عامًا، شهد خلالها أربع عدواناتٍ إسرائيليةٍ شرسة ضد سكان قطاع غزة. كان عمله خلالها خلف العدسة "استثناء" وفق وصفه، ويزيد: "لحظات رعب تتشنج فيها أعصابنا. نكاد نموت من التعب، لكننا لا نستطيع التوقف فنحن في تلك اللحظات عين الحقيقة ومرسالها إلى العالم بأسره".

يرى نضال أن الأمانة التي تلقى على عاتق الصحفيين وقت التصعيد "ثقيلة" إلى الحد التي تجعل كل واحد منهم يود لو يرسل ما صوّره من أشلاء ودماء ودمار ودموع لكل شخص في هذا العالم على حدة ليصرخ في وجهه: هل ترى هذا؟ هل ترى هذه الآدمية التي تنتهك فوق أرضنا المحتلة؟".

عند توتر الأحداث، يركض نضال وعدد من زملائه وزميلاته باتجاه مكانٍ مرتفع لترقب اللحظة التي يكرهونها: لحظة قصف غزة.

يصوبون عدساتهم بعددٍ من الزوايا المختلفة، ويحاولون التغلب على العوامل المحيطة كالبرد، والنعاس عند منتصف الليل.

يخبرنا نضال بعض ما مر به في عدوان آيار/ مايو المنصرم، عندما تخطّى 10 أيام دون نومٍ ولو لساعةٍ واحدة، "وفي اللحظة التي غفوت فيها مرة حدث قصفٌ قريب، فتناولت كاميرتي دون وعي، والتقطت صورًا ثم عدت للنوم مجددًا".

يعقب: "عندما استيقظت، سمعتهم يتحدثون عن قصف حدث، وكل ظني أنني كنتُ في عداد النائمين، لولا أن فتحتُ كاميرتي ورأيت صور القصف موجودةً فيها". كان موقفًا صعبًا وهو الذي حاول التغلب على النعاس بكل أنشطة اليقظة والانتباه، وتلك الأحاديث التي كان يختلقها المصورون مع بعضهم البعض دون مناسبة فقط ليبقوا مستيقظين لأطول وقتٍ ممكن.

أشرف عمرة مصورٌ صحفيٌ آخر "فريلانسر" منذ 20 عامًا، يقول: "إن التغطية الصحفية تستدعي أن يظل يقظًا لترقُب لحظة سقوط الصواريخ التي لا يُعرف من أي اتجاهٍ ستسقط، حتى لو امتدَّ الأمر يومًا كاملًا دون استراحة.

فعند الإنذار بجولة تصعيد، لا يوجد ترتيبات معينة. يقطع زيارته أو تناول طعامه أو ارتشاف قهوته، أو حتى نومه، فور دوي صافرات الإنذار لدى الاحتلال.

يجهّزُ نفسه سريعًا حاملًا حقيبة معدّاته، ويتوجّه إلى أعلى بنايةٍ حوله لانتظار لحظة القصف التي سيلتقِطُ صورةً لها.

وفي أوقات منتصف الليل حين لا تتوفر له سيارة تنقله من مكان لآخر، يصعد فوق سطح منزله حتى لو كان البرد قارسًا، فلا خيار آخر أمامه.

عن الجولة الأخيرة يقول: "انتظرتُ مرةً من الساعة الـ 11 مساءً حتى العاشرة من صباح اليوم التالي، لكن الاحتلال لم يشن غاراته برغم التحليق المكثف للطيران".

وبين التغطية والمخاطر، ثمة حرب داخلية يعيشها الصحفيون، فلحظات الخوف والرعب التي تعتري قلوبهم وقلوب ذويهم قاسية ومرة. "يعتقد الناس أن المصورين يلتقطون الصورة وحسب، هم لا يعرفون ما يدور في الكواليس" يقول.

ويضيف: "الانتظار مرهق وقاسٍ. ساعات طويلة فوق الأسطح بعتمة الليل، وأحيانًا يكون القصف في مكان معاكس لتجهيزك، أكثر من 10 ساعات بانتظار الصورة، وأحياناً لا نلتقطها".

يحدثنا هنا عن موقف مر به في تصعيد سابق، عندما ظل ينتظر فوق سطح أحد الأبراج، غلبه النوم على الكرسي، وما أن نفذ الاحتلال الغارة حتى استيقظ بفزعٍ يبحث عن كاميرته بالحقيبة وحوله. لقد نسيَ أنها أمامه مجهزة، حتى انقضى القصف وهو في مرحلة البحث.

يتابع أشرف: "خلال عدوان مايو/آيار عام 2021م، لم أعد لمنزلي ولا دقيقة واحدة. لم ألتقِ زوجتي وأطفالي وأمي، بل إنني في عام 2012م كنتُ في تغطية، وفوجئتُ بنبأ استشهاد والد زوجتي التي لم أستطع الوقوف بجانبها ولا مواساتها، وربما هذا من أصعب المواقف التي مرت علي خلال عملي".

الصعود للأماكن العالية قصّة أخرى ليست سهلةً بالتأكيد، إذ يشعر الصحفيون بالحرج من أصحابها، فهناك من يستقبلهم وهناك من يرفض ذلك، هذا في وقتٍ يعانون فيه من عدم توفر أدوات السلامة المهنية، وتحديدًا لفئة العاملين بالقطعة.

من جهتها، تشير الصحفية شروق شاهين التي تعمل مراسلة لتلفزيون سوريا، إلى أنها تلغي ارتباطاتها العائلية فور سماعها بتوتر الأحداث.

يتركز اهتمامها فقط بالتغطية بين الأخبار العاجلة، والتقارير، وموجات البث المباشر.

تُجبَر شروق على المتابعة من المنزل حينما يندلع التصعيد عند منتصف الليل، وهو أمرٌ ليس أهون من الميدان فوق أسطح البنايات المرتفعة، خصوصًا مع انقطاع التيار الكهربائي، وعدم وجود زملاء يدعمونها لفترات أطول. "ناهيكم عن مشكلات الإنترنت التي تتسبب بخلل في الصورة وتقطيع في الصوت أثناء موجات البث المفتوحة" تقول.

وتضيف: "ننسى الأكل والشرب حتى لو كنا صائمين، ننساه حتى وإن احتجنا لشربة ماءٍ على السحور". العين على الحدث، والعقل يفكر من جهة ثانيةٍ: ماذا سيحدث بنا؟" هذا ما تقوله شروق. "قصّةٌ حزينة ومأساوية لا توثقها كاميراتنا، فهي عيننا على الناس" تختم.