"الهليون".. حكاية الضابط الإسرائيلي الذي سكن مخيمًا بغزة
تاريخ النشر : 2022-02-26 21:23

شيءٌ يشبه قصص الخيال! كيف يمكن أن تعيش مع شخصٍ عشرات السنين، تظنّه أحدهم، ثم تكتشف بعد موته بوقتٍ لا بأس به بأنه أحد آخر تمامًا.. أحدٌ لا يشبهك، ولا يتلاقى معك لا في هويةٍ ولا في خُلُق.. أحدٌ لا يكترث إلا لما يسمعه منك أو يراه. فهذا رصيد بقائه، ورأسمال عمله.

جاسوسٌ إسرائيليٌ، عُرف بـ "الهليون" في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، الذي عاش فيه في الفترة الممتدة بين عامي ١٩٦٥ و١٩٨٩م. هذا الشخص الذي كان الناس يرونه "مجدوبًا" لم يثر شكوكهم لمرة، وهو الذي عاش وسطهم كـ"لاجئٍ" فلسطينيٍ قدمَ من مخيم "شاتيلا" في لبنان، بعد أن فقد أهله إثر غرق مركبهم خلال هروبهم من شمال فلسطين المحتلة بحرًا إلى لبنان، إبان نكبة فلسطين عام 1948م.

اليوم صار "الهليون" بطل روايةٍ قاد دفة أحداثها الكاتب طلال أبو شاويش، عندما وقف على الكثير من المفارقات والتفاصيل ذات البعد والدلالة الرمزية، ووضعها في قالبٍ روائيٍ أدبي، يسعى إلى توثيق تجليات حقبةٍ مشتعلة من الكفاح الفلسطيني ضد وحشية الاحتلال الإسرائيلي، وتسليط الضوء على الوسائل القمعية لمحاولة ترويض وتفتيت البنى الاجتماعية المقاومة، وكسر روح التحدي، ومناهضة سياسة المحتل.

ورغم أن الرواية حملت اسم "الهليون"، إلا أنه ليست روايةً جاسوسية وفق كاتبها، فـ "الهليون عاش في مجتمع متكامل، وفي مناخٍ سياسيٍ وأمنيٍ مضطرب بعد احتلال قطاع غزة تحديدًا، وكان المعادل الموضوعي للاحتلال هو المقاومة".

الرواية عرضت جزءًا من تاريخ هذه المرحلة الهامة من تاريخ القضية الفلسطينية، وأرخت تجربة العمل الفدائي، ممثلاً بشخصية "منصور" الذي جاء ليمثل المقاومة، بينما كان "الهليون" هو رمز الاحتلال الذي زرعته "إسرائيل" وسط السكان.

أشهر طويلة، قضاها أبو شاويش في الكتابة، سبقتها أشهر أخرى في الاطلاع والبحث عن كل ما كتب عن هذه المرحلة التاريخية، والاستناد إلى ما كتبه كتاب محليين، وما سمحت دولة الاحتلال بنشره حول (الهليون)، الضابط الإسرائيلي الذي زرعه الاحتلال في قطاع غزة أوائل الستينيات من القرن الماضي، "والبحث عن الشخصية، ومقابلة أشخاص عاصروه، وعايشوه، وكانوا من المقربين له".

ولم يكتفِ أبو شاويش بذلك، بل قرر زيارة المكان الذي عاش فيه هذا الجاسوس، يقول: "منحتني الزيارة طاقة كبيرة، حتى أن مكان سكناه أعطاني مقدرة للغوص في الشخصية، والتعرف على مجالها الحيوي، وبنائها في الرواية بصورة عميقة".

أبو شاويش، وعندما قرر كتابة رواية "الهليون"، لم يكن يروم إلى الترويج لأسطورة أمنية كما قدمها الاحتلال، "فقد كنت على قناعة تامة بأنه مقابل الرواية الإسرائيلية بتفاصيلها المختلفة، نمتلك كفلسطينيين سرديتنا الخاصة بتفاصيلها" يعقب.

أما الهدف العريض من كتابة الرواية، فكان "تبهيت الأسطورة الإسرائيلية، وطرح أسئلتها الغامضة وإخضاعها للتفكير والنقد، وفتح الآفاق أمام إجاباتنا الوطنية، وروايتنا الفلسطينية" يزيد.

وتستهدف الرواية في صفحاتها الـ 300 كافة شرائح القراء، فهي بعيدة كل البعد عن الإغراق في الرمزية، أو التبسيط الزائد، بينما اعتمدت الحبكة الدرامية على تساؤلات كثيرة حملها "يوشع"، وهو الابن الذي استحضره أبو شاويش، وعرفه بأنه ضابط إسرائيلي متقاعد، شارك في اختطاف جثمان "الهليون" دون أن يعرف أنه والده.

تساؤلاتٌ لازمت "يوشع" لسنوات، لم يحصل خلالها على إجابات منطقية مقنعة تتحدث عن وفاة والده، حتى يأتي الوقت الذي يدور فيه حوار بينه وبين فدائيٍ بحاجة للسفر والعلاج داخل الأراضي المحتلة، محاولاً ابتزازه والحصول على أي إجابات يمكن أن تطفئ نار الأسئلة داخله، مقابل السماح له بدخول الأراضي المحتلة، لتنتهي الحكاية نهايةً مفتوحة، بعد رفض المقاوم الخضوع لابتزاز الضابط الإسرائيلي، والعودة إلى غزة دون علاج.

ووفقًا للرواية، فقد عمل "الهليون" في مهنة نضح آبار الصرف الصحي يدويًا، تلك التي كان يلجأ إلى حفرها اللاجئون داخل منازلهم بسبب عدم توفر شبكات الصرف الصحي في تلك الفترة، ويتقاضى نظير ذلك مبلغًا زهيدًا، وقطعة صابون.

يصف أبو شاويش "الهليون"، بأنه كان قوي البنية، قليل الكلام، ويرفض بشدة تناول الطعام الذي يقدم له في بيوت المخيم، ويكتفي بأجرته، "كانت حياته غريبة، إذ لم يتزوج، ولم يكن يسأل عنه أحد" يقول.

في نهاية سبعينيات القرن الماضي، افتقد سكان المخيم "الهليون" بضعة أيام، ليجدوه ميتًا داخل غرفته الصغيرة، ثم يتطوع عددٌ منهم لدفنه في مقبرة "الشيخ رضوان"، أما المفاجأة فتحدث مساء يوم الدفن، عندما تقوم مروحيات إسرائيلية بعملية إنزال داخل المقبرة، لنقل جثته للدفن في الداخل المحتل! اعتقد حينها سكان المخيم أن هدف العملية سرقة جثامين الشهداء، لكنهم فوجئوا قبل عدة سنوات، بتقريرٍ تلفزيوني بثته قناةٌ إسرائيلية عن "الهليون" رجل المخابرات الذي زرعته "إسرائيل" في المخيم، بعدما "حبكت" قصته كلاجئ من يافا إلى لبنان، ومنها إلى غزة.