استراتيجية الإلهاء الاسرائيلية لإدارة الصراع..
تاريخ النشر : 2022-01-31 08:20

بينما تقوم إسرائيل بتغيير الواقع السياسي والاقتصادي والديمغرافي للأراضي الفلسطينية يوميا تحت أنظار العالم، وذلك من خلال المزيد من مشاريع التوسع الاستيطاني عبر تمرير عطاءات مشاريع لآلاف الوحدات الاستيطانية وشرعنة البؤر الاستيطانية، وتقوم الجرافات الاسرائيلية بهدم التواصل الديمغرافي الفلسطيني فى كل مدن الضفة الغربية والقدس عبر استهداف مدروس لمناطق وأحياء بعينها فى الضفة الغربية والقدس كالخان الأحمر وبيوت حي الشيخ جراح وغيرها، وتكتفي الحكومة الاسرائيلية باستراتيجية إدارة الصراع عبر تبريده بحوافز اقتصادية قصيرة الأجل ليس إلا؛ وكذلك الامتناع عن حتى مجرد الحديث فى موضوعات ذات صلة بالشق السياسي. وذلك كله يحدث وثمة استراتيجية أخرى تطبق على الأرض ليس أقل أهمية لاسرائيل من جرافاتها ومشاريعها الاستيطانية؛ إنها استراتيجية إلهاء أو إشغال الفلسطينيين عن التفكير فى الشأن العام. 

واستراتيجية الالهاء هي استراتيجية اتبعت سلفا يلخصها البروفسور ناعوم تشومسكي أحد أهم الفلاسفة والمفكرين الانسانيين فى العالم فى إحدى مقالاته التاريخية بتسعة بنود من ضمن تلك  البنود التسع؛ وهي ما قامت به إسرائيل من إغراق الفلسطينيين فى بحر من المشاكل الصغيرة بحيث يكون لكل فلسطيني مشكلته أو بمعنى أصح معضلته التى تكفيه وتلهيه عن أى مشاكل قومية أو حتى وطنية. 

وعلى سبيل المثال لو أخذنا وضع غزة وكيف تحولت حياة سكانها اليومية إلى رحلة شقاء فردية يصارع خلالها الفلسطينى من أجل توفير أسباب البقاء البيولوجي بعد أن أصبح ما يزيد عن 50% من سكانه تحت خط الفقر وسط بحر من أزمات مستعصية عن الحل كالكهرباء والمياه  والبنية التحتية والبطالة والسفر وغيره بحيث تحول حصول المواطن الغزي على تصريح عمل فى  إسرائيل بمثابة طوق النجاة الوحيد والمتاح، وهنا ثمة معضلة أن يصبح العدو والذى أغرقك سلفا هو نفسه من يمد لك طوق النجاة. 

وهذا التشتيت الذى ينتاب الفلسطيني فى كل مكان ليس اعتباطيا؛ بل هو مخطط مدروس بعناية لكي يفقد الفلسطيني توازنه الوطني والقومي ويتجه نحو جلد الذات؛ وهو أحد البنود التى ذكرها البروفسور تشومسكي  وهنا تتحول طاقة العداء من الاتجاه نحو العدو إلى أى اتجاه آخر. 

من هنا علينا أن نفهم أسباب عزوف السواد الأعظم من الفلسطينيين عن الاهتمام بقضايا الصراع الكبرى مع اسرائيل كالاستيطان واقتحام وتهويد المسجدين الأقصى والابراهيمي وقضية الأسرى؛ وكافة القضايا اليومية كقضايا حي الشيخ جراح وعربدة المستوطنين والقتل اليومي للفلسطينيين فى الضفة بحيث أصبح عدد المتظاهرين فى مسيرات المقاومة الشعبية محزن. 

لقد شكل الواقع الراهن الذى يعزف فيه السواد الأعظم من الفلسطينيين عن المشاركة فى الشأن العام والبحث عن الخلاص الفردي ذروة سنام الغاية الاسرائيلية بتحييد الشارع الفلسطيني عن مجريات الصراع اليومية، وهذا الشارع الذى كان هاجس اسرائيل الذى يقض مضجعها ويزلزل أمنها، وهنا لا نعفى الأحزاب الفلسطينية الذى ساهمت مساهمة إضافية فى هذا التحييد عبر تفرد أطراف الانقسام بالقرار الفلسطينى دون العودة للشعب لما يزيد عن عقد ونصف تحول فيها الشعب إلى طرف غير ذى صلة. 

وفى ظل وضع كهذا ليس غريبا أن ينشغل الرأى العام في قضايا حياتية اجتماعية تحدث بشكل يومى في كل دول العالم؛ فى حين لا يلفت انتباهه قضايا مصيرية كبرى يجري حسمها على مرئى ومسمع الجميع ولا حياة لمن تنادي. 

ثمة تغيير كبير حدث ويحدث فى المجتمع الفلسطيني وثمة منحنيات تهوي إلى الأسفل وثمة طبقة سياسية فلسطينية أخفقت وثمة طبقة ثقاقية تقاعست، ولكن يبقى الأمل فى الغد فى أن تتفتح  شقائق النعمان مجددا فى هذه الأرض التى خضبتها وروتها دماء الشهداء والجرحي.