عام 2021 في الضفة: قراءةٌ في تسلسل قمع السلطة
تاريخ النشر : 2022-01-03 23:35

رام الله:

ليس في مقولة "واقع الحرّيات بالضفة[1]" مضمونٌ سوى سطوة خطابها. إذ نجحت السلطة الفلسطينية، إلى حدٍ كبير، في التأسيس لخطابٍ لا تربطه علاقةٌ بالواقع الفلسطيني، وهو الذي تلقّفه مجتمع المؤسسات الإعلامية والقانونية والحقوقية في غالبيته. إن الحديث عن ازدهارٍ أو انتكاسٍ في واقع الحرّيات يحتوي بداخله افتراضاً بوجود أرضيّةٍ سياسيةٍ تسمح بخلق مناخٍ ديموقراطيّ حرّ، في حين أن واقع الضفة الذي تحكمه القبضة الأمنيّة القائمة على التنسيق بين سلطات العدوّ والسلطة الفلسطينية لا يتّسع لخطاب الحريّة وسيادة القانون، بقدر ما يتّسع لخطابٍ ينظّر لبناء أرضيةٍ سياسيةٍ جديدة تسعى نحو الحرّية.

في سياق المحاولات الدائمة من جانب السلطة لترسيخ مجالٍ سياسيّ- حقوقيّ- قانونيّ- مؤثرٍ في حضوره وفارغٍ في مضمونه، اختارت أن تفتتح العام بإعلان مرسوم الحريات بعد صدور قرار إجراء الانتخابات العامة. ولأن المرسوم مُفرطٌ في فراغه، لم يُتاح له إثبات مصداقيّته ولو لأيام قليلة؛ فبعد يومٍ من إعلانه، اعتدى أفرادٌ من الأجهزة الأمنية بالإهانة والضرب على الشاب محمود الكعبي من مدينة نابلس داخل مقرّ الأمن الوقائي، بعد استدعائه للتحقيق حول منشور له على فيسبوك يدعم فيه ترشّح الأسير مروان البرغوثي للانتخابات الرئاسية. أيّ أن السلطة بدأت مسلسل القمع بإسكات المنتمين لتيار حركة فتح قبل أن تبدأ بإسكات التيارات المُعارضة.

في فترة التحضير للانتخابات، وبينما نصّ مرسوم الحريات على إطلاق سراح المعتقلين على خلفية الرأي أو الانتماء السياسيّ، استمرّت محاكمة عشرات النشطاء الفلسطينيين في ملفاتٍ سياسيةٍ قديمة.

يختص هذا التقرير باستعراض عمليات القمع في مناطق الضفة، ولا يشمل الانتهاكات الداخلية في قطاع غزة، التي أشار المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى استمرارها، مع تواصل الانقسام الفلسطيني.  وحسب المركز، عززت الأجهزة الأمنية في غزة سياستها الرامية خاصة إلى فرض حالة من الرقابة الذاتية من خلال استهداف الصحفيين وأصحاب الرأي بالاعتقال التعسفي وتوجيه الاتهامات الكيدية والترهيب.

وكان النمط السائد للانتهاكات خلال 2021، هو تقديم نشطاء رأي للمحاكمة والاستدعاء المتكرر والاحتجاز "المقترن بالتعذيب على خلفية ممارسة العمل الصحفي" في تغطية الأحداث والتعبير على مواقع التواصل الاجتماعي.

رغم ذلك، ظلّت الأجواء الإيجابية الحالمة بالحرّيات سائدة، خاصةً خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021، عندما كانت تتحضّر القوائم الحزبية والحراكية والمستقلة خوض الانتخابات التشريعية التي كان من المفترض عقدها في تاريخ 22/أيار، قبل أن يلغيها الرئيس محمود بقرارٍ فرديٍّ غير متفقٍ عليه مع كلّ الفصائل. كان السبب المُعلن لتأجيل الانتخابات لأجلٍ غير مسمّى هو رفض الاحتلال السماح بإجرائها في القدس، فيما أجمعت معظم التحليلات أن القرار جاء بسبب الانشقاقات الحادّة داخل حركة فتح والتي يبدو أنها لم تكن متوقعة بالنسبة للقيادة.

في أعقاب قرار التأجيل بتاريخ (30/نيسان/2021)، أخذت الأحداث في فلسطين مساراً مختلفاً؛ إذ بدأ المقدسيون خلال شهر رمضان هبّةً شعبية في باب العامود، ثم توالت الأحداث لتندلع هبّة أيار في عموم فلسطين.

خلال الهبّة، كان هناك حضورٌ للأجهزة الأمنية الفلسطينية، تحديداً بتاريخ (10/ أيار/2021) و(11/أيار/2021)، من خلال اعتدائها على مسيرات خرجت في رام الله وجنين نُصرةً للقدس وقطاع غزة الذي كان يتعرّض لعدوان إسرائيليّ شرس في حينه.  

حسب تقريرٍ صدر عن مؤسسة الضمير في نهاية شهر أيار الماضي، نفذّت الأجهزة الأمنية حملة استدعاءاتٍ واعتقالاتٍ سياسيةٍ مكثّفة بعد إلغاء الانتخابات وأثناء هبّة أيار. بعضهم تعرّض للضرب والتعذيب والإهانة مثل ما حصل مع الناشط مصطفى الخواجا الذي تم اعتقاله على خلفية آرائه الناقدة للسلطة والداعمة للمقاومة في غزة.

تراوحت الاعتداءات ما بين القمع بواسطة الأسلحة كقنابل الصوت والغاز، والضرب بالهراوات على أنحاء الجسد كافّةً، والسحل، والتحرّش، وسرقة الهواتف، تبعها انتهاك خصوصيّة المتظاهرين تحديداً النساء منهم

كانت العودة إلى نهج الاعتقال والملاحقة متزامنةً مع اندلاع الهبّة التي برزت فيها المقاومة في غزة على حساب حضور السلطة الفلسطينية، بينما شهد هذا النهج منعطفاً خطيراً في تاريخ (24/حزيران/2021) عندما تم اغتيال الناشط والمرشح لانتخابات البرلمان نزار بنات، بعد سنوات من الملاحقة على خلفية نشاطه في فضح الفساد السياسيّ.

وجهّت حادثة الاغتيال رسالةً إلى كلّ النشطاء والمُعارضين والصحفيين الناقدين أن كلّ الممارسات القمعية السابقة ليست كلّ ما في جعبة أجهزة السلطة في سبيل الإسكات والإخضاع. ولم تكن لهذه الرسالة أن تصل بكامل فحواها من دون أن يواجه الرافضون لحدث الاغتيال أقسى درجات القمع في الميدان.

اقرأ/ي أيضًا:الضفة تشتعل.. لا لقتل المعارضين

في الفترة ما بين (24/حزيران/2021) و(25/آب/2021)، خرجت 17 تظاهرة  في رام الله والخليل وبيت لحم تنديداً باغتيال نزار بنات. تسعُ مظاهرات منها، غالبيتها في رام الله، تعرّضت للقمع المكثّف، فيما تم اعتقال نحو 70 شخصاً أثناء توجههم للتجمعات السلمية أو أثناء مشاركتهم بها. (حسب تقرير لمؤسسة الضمير)

تراوحت الاعتداءات ما بين القمع بواسطة الأسلحة كقنابل الصوت والغاز، والضرب بالهراوات على أنحاء الجسد كافّةً، والسحل، والتحرّش، وسرقة الهواتف، تبعها انتهاك خصوصيّة المتظاهرين تحديداً النساء منهم، من خلال نشر صورهنّ الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعيّ. كما أُصيب عدد كبير من المواطنين بجروح مختلفة؛ نتيجة الاعتداء والضرب الذي تعرّضوا له.

عبد الرحمن: السلطة تعمّدت استهداف الصحفيّات بشكلٍ ممنهج ومقصود لإيصال 3 رسائل للنساء والوسط الصحفي والمجتمع

في هذه الحملة القمعية، برزت خصوصيةٌ ما في طبيعة الاستهداف لفئتين محددتين؛ الصحفيين، والنساء.    تقول مديرة مؤسسة "فلسطينيات" وفاء عبد الرحمن إن السلطة تعمّدت استهداف الصحفيّات بشكلٍ ممنهج ومقصود لإيصال 3 رسائل؛ كانت الأولى موجهّة للنساء بشكلٍ عام بسبب نشاطهنّ الملحوظ سياسياً سواءٌ في هبّة أيار أو في تصدّر المظاهرات المندّدة باغتيال بنات، ومفادها؛ (اسكتن، يكفيكن).

بينما تفيد الرسالة  الثانية بضرورة إسكات الوسط الصحفي عموماً، بعد أن بدأت تظهر توجهاتٌ نقدية، وإن كانت غير جذرية، في بعض وسائل الإعلام. أما الرسالة الثالثة، وهي الأخطر؛ فكانت موجهّة للمجتمع بإعادته إلى مساحة نقاشٍ (حول عمل النساء في الميدان) كان قد تجاوزها منذ زمن. تقول عبد الرحمن إن السلطة وضعت النساء في مواجهةٍ مع المجتمع من خلال كلّ ممارسات التشهير والتشويه على وسائل التواصل الاجتماعي، مضيفةً أن الأجهزة الأمنية، في عملها الممنهج هذا، كانت تنشد عودة التنميط المجتمعي لعمل الصحفيات والناشطات.

اقرأ/ي أيضًا:انتصرت الصحافيات وانهزم القمع

في سؤالٍ بعد أشهر على أحداث الاعتداء، هل نجحت السلطة في تحقيق هدفها؟

تقول وفاء عبد الرحمن إن الصحفيات اللواتي تعرّضن للاعتداء أصبحن أكثر شراسة، وما زلن يمارسن عملهنّ في الميدان. في المقابل، ترجّح عبد الرحمن أن تكون الأحداث الأخيرة قد أثرّت على الجيل الجديد من طالبات الصحافة، باتجاه الشعور الخوف.

هل ترتدع السلطة بإدانات المجتمع الدوليّ؟

أثارت الحملة القمعية ردود أفعال تجاوزت المستوى المحلّي؛ إذ صدر عن جهات دوليّة، أبرزها الاتحاد الأوروبيّ، بيانات استنكارٍ وإدانة. لم يكن في تلك البيانات ما يدعو على الاستغراب باعتبار أنها صادرة عن جهاتٍ ترفع شعار "الديمقراطية والحريات"، فيما كان التصريح الصادر عن الاتحاد الأوروبي بتاريخ (25/6/2021) جاذباً للاهتمام؛ إذ أعلنت، تزامناً مع اغتيال نزار، التبرؤ من دعم الأجهزة الأمنية الفلسطينية. والسؤال هنا: هل صحيح أن الاتحاد بريءٌ من دعم منظومة القمع؟

نعرف أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بصورتها الحديثة، تلقّت الدعم والتدريب من الجانب الأمريكيّ، فيما تولّى الاتحاد الأوروبيّ بالعموم تمويل القطاع المدنيّ. مع ذلك، كان تأسيس "بعثة الاتحاد الأوروبي لمساندة الشرطة المدنية الفلسطينية وسيادة القانون"عام 2006 من أهم مشاريع الاتحاد في تثبيت الوضع القائم بالنسبة للدور الوظيفي المنوط بالسلطة الفلسطينية. لا يتّسع هذا التقرير للإسهاب في شرح دور الاتحاد الأوروبي في هيكلة أداء السلطة في القطاعات الفلسطينية وعلى رأسها القطاع الأمنيّ. لكن، لمن أراد تتبّع الموضوع من جوانبه المتعددة بإمكانه الاطلاع على دراسةٍ جديدة تجادل بأن ما يسمى بمشروع إصلاح قطاع الأمن (SSR) عزّز أسس السلطوية/ الاستبداد (Authoritarianism) الفلسطينية، وأنه من خلال التركيز على تطوير مهمة البعثة الأوروبية لمساندة الشرطة الفلسطينية (EUPOL COPPS)، فإن "الإصلاح" الذي يرعاه الاتحاد الأوروبي ساهم بشكلٍ مباشر في "احتراف" السلطوية الفلسطينية.[2]

من المهم أن نذكر في هذا السياق أنه في أحداث القمع الأخيرة تم إقحام الشرطة في عمليات الاعتقال والاعتداء أكثر من المرّات السابقة. وإن صدور بيانات الإدانة من جانب الاتحاد الأوروبيّ لم يمنع أبداً من استمرار عمل البعثة الأوروبية لدعم الشرطة على النحو السابق دون أيّ تغيير.

لا زالت محاكمات أكثر من 35 ناشطاً  بتهم "الذمّ والقدح والتجمهر غير المشروع" مستمرّة حتى هذه اللحظة

استمرّ الحراك الشعبيّ المُطالب بالعدالة للشهيد نزار بنات أكثر من شهرين بقليل. في آخر 3 مظاهرات، بدا أن السلطة قرّرت تخفيف وتيرة قمعها ضد النشطاء في الميدان بعد أن حقّقت هدفها بتقليل عدد المتظاهرين ومنعهم من التوجه لمقر المقاطعة في رام الله، فيما لا زالت محاكمات أكثر من 35 ناشطاً  بتهم "الذمّ والقدح والتجمهر غير المشروع" مستمرّة حتى هذه اللحظة. يأتي هذا بينما وثّقت مجموعة محامون من أجل العدالة نحو 400 حالة اعتقال سياسي منذ بداية العام، تركّزت في الأشهر الخمسة الأخيرة. ويُعد هذا الرقم كبيراً جداً بالمقارنة مع سنواتٍ سابقة.

ولو أن العام انتهى عند مشهد محاكمة نشطاءٍ يطالبون بالحرّيّة والعدالة، لكان الأمر أقلّ مرارة من أن تُختتم سنة 2021  بارتكاب جريمةٍ مروّعة خلال حملة الأجهزة الأمنية في ملاحقة مسيرات تشييع الشهداء واستقبال الأسرى المحررين خاصة المحسوبين على حركة "حماس"؛ ففي تاريخ (21-12-2021) استشهد الشاب أمير أبو خالد اللدواي من مخيم عقبة جبر في أريحا متأثراً بإصابة حرجة تعرّض لها أثناء مطاردة مركبته من قبل عناصر أمنية فلسطينية مستنفِرة بسبب رفع الريات الخضراء خلال استقبال الأسير المحرر شاكر عمارة في أريحا. الشاب أمير تعرّض للملاحقة حتى انقلبت مركبته، وعندما أخذته سيارة إسعاف، قام عناصر الأمن بإنزاله وتركه على الأرض لأكثر من نصف ساعة قبل أن تأتي سيارة الإسعاف الثانية، ليرقد في المستشفى أسبوعاً في حالة الخطر، ومن ثم يموت!

اقرأ/ي أيضًا:الاغتيال السياسي ..اشتعال الداخل وحذر الخارج

قبل هذه الفاجعة بحوالي شهر، هاجمت عناصر أمنية بلباس مدنيّ المشيّعين في جنازة الشــهــيد أمجد أبو سلطــان في مدينة بيت لحم. وفي شهر كانون الأول، اعتدت الأجهزة الأمنية الفلسطينية على قاعة استقبال الأسير المحرر محمد عارف من مخيم نور شمس في طولكرم، قبل أن يقوم أفراد الأمن بتفريق مسيرة تشييع الشهيد جميل الكيال في نابلس.

إلى أين نحن ذاهبون؟

الشهيد نزار بنات كان قد استبق الإجابة في شهر نيسان الماضي، عندما استُضيف في مقابلةٍ عبر قناة الميادين كمحللٍ سياسيّ. سُئل حينها عن التبعات المحتملة لقرار إلغاء الانتخابات، فأجاب: "إما أن نذهب إلى مزيدٍ من الحرية الشعبية وتشكيل حالة وطنيةٍ جديدة، وهذا ما يجب أن نحفر له الأرض حفراً، أو أن تزداد شراسة القمع السلطوي على الناس، لا يوجد بديل آخر". لعلّ في حديثه إجابةً ثانية على سؤال التبعات المحتملة لعملية تصفيته![3]

____________________________

[1] يختص هذا التقرير باستعراض عمليات القمع في مناطق الضفة، ولا يشمل الانتهاكات الداخلية في قطاع غزة، التي أشار المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان إلى استمرارها، مع تواصل الانقسام الفلسطيني.  وحسب المركز، عززت الأجهزة الأمنية في غزة سياستها الرامية خاصة إلى فرض حالة من الرقابة الذاتية من خلال استهداف الصحفيين وأصحاب الرأي بالاعتقال التعسفي وتوجيه الاتهامات الكيدية والترهيب.

وكان النمط السائد للانتهاكات خلال 2021، هو تقديم نشطاء رأي للمحاكمة والاستدعاء المتكرر والاحتجاز "المقترن بالتعذيب على خلفية ممارسة العمل الصحفي" في تغطية الأحداث والتعبير على مواقع التواصل الاجتماعي.

[2] الترتير،علاء. ربيع 2021. "حدود السلام القائم على الأمن: رعاية الاتحاد الأوروبي للسلطوية الفلسطينية". مجلة الدراسات الفلسطينية. مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت. انظر: https://www.palestine-studies.org/ar/node/1651082 

[3] انظر: https://www.facebook.com/nizar.banat.alajouri/videos/3016728518570407