مالا تعرفونه عن حياة تحت القصف ...!!
تاريخ النشر : 2021-05-24 11:11

بقلم: هداية صالح شمعون (*)

أبتلع حبتين من الفيتامينات اعتدت على تناولها منذ شهرين، لتقوية المناعة ضد كورونا، تبدو حالتي الآن غريبة أضحك دون أدنى رغبة بالضحك.. فيتامينات في الحرب؟! ما الذي تقصدين قوله تحديدا...! لا عليكم تناولت بعضا من البعض لأكتشف أن ريقي ناشف فعليا كصحراء جرداء يبدو أنني لم أشرب الماء منذ آخر يومين بصيام رمضان، يبدو أنني نسيت أننا الآن في اليوم الثالث من عيد الفطر أو الرابع لا أذكر تماما؟!؟ فأي عيد هذا الذي يخطف قلوب الأمهات، ويجدل شعر طفلة بالدماء بينما حل العيد ولم ترتدي ثوبها الجديد...!!

أحاول مرة أخرى حسنا.. أتجه إلى غرفتي أحاول الوصول إلى مرآتي لأمشط شعري ولكني توقفت مذهولة.. كم امرأة في غزة لم تمشط شعرها منذ بداية الحمم المسعورة من الاحتلال الإسرائيلي.. سماء حمراء نارية لا تتوقف على الوهيج بعينك تشعر أنك في فيلم سينمائي فيلم رعب لكنك أحد أبطاله؟؟ كيف يمكن أن تكون ممثلا في حياة غير طبيعية؟!! كم امرأة لازالت ترتدي ملابس الخروج تتوشح منديلها ليل نهار، تشد على قميصها وتهرول لتلتقط أنفاسها فتحمل صغارها حيثما حلت في المطبخ، في الصالون، في الحمام، حتى الحمام بات مشتركا، لا أحد يغلق باب الحمام فكل لحظة تخشى أن يهتز البيت أو تسمع صوت الانفجارات فتوصد الأبواب ولا نتمكن أحد من فتحها؟؟!! أبواب بيوتنا لم تعد تغلق، شبابيك البيت فوق تحت كل مشرعة خشية الانفجارات المتتالية في الجوار، خشية من تكسرها، أو انفجار البيت من هول الانفجارات.؟؟

... وجبة واحدة وأقل كأننا لا زلنا في شهر رمضان يكاد يؤذن المغرب ولم نأكل شيئا؟؟!! كيف نفكر في الطعام والشراب والمجازر ترتكب أمام أعيينا وأطفال ممزقين، ونساء مشردات، وكهول يبكون؟!! لازلت أمسك المشط أحاول ان أقنع نفسي بأن كل شيء سيزول، ولكي نصمد يجب أن نشعر أنفسنا وأطفالنا أننا بإمكاننا أن نمارس طقوسا عادية، لكني أعود وأتوقف حين أسمع صرخات النساء والأطفال في الشارع، أهرع للنافذة.. الكل يصرخ اخلاء اخلاء المنطقة.. كيف؟ أين؟ متى؟ ماذا يحدث؟؟!! قول واحد لم يعد تحذيرا للبيوت أصبح اخلاء للمنطقة.؟؟ أقف كالبلهاء ألقي بالمشط، وابحث عن شيء لا أذكر ما هو.. الأصوات تناديني هيا اخرجي بسرعة؟!!

ماذا يمكن أن يفكر المرء أن يأخذ في دقائق معدودة بل قد تكون ثواني؟؟!! لتنقذ روحك؟؟!! كثيرون يعتقدون أن بإمكانهم أن يضعوا أهم أوراقهم في حقيبة ويضعونها بجانب باب البيت لتكون جاهزة في أي وقت؟؟ لكني لم أقوى أن أفعل فعلتهم؟؟! ما معنى الأوراق والشهادات والجوازات بعدما يدك البيت؟؟!! وأي بيت ألا يعد ابنا أو أما أو أخا أو صديقا هل تأخذ شيئا من رائحته؟ أم لا تقو على توديعه وحسب.. لم أفكر أن قلبي قد يطاوعني وأجهز شيئا لآخذه إذا ما حدث قصف وتدمير.. قد لا أرغب بالحياة وقتها؟؟!! قد أمزق الأوراق كلها من شدة الغضب؟!! وقد أسكب عليها النيران وألعن إسرائيل ألف مرة؟!! أنا لن أروض روحي لتقهر أبدا...!! ولن أرتب الأوراق وسأترك البيت بفوضاه، وبطريقتي في حبه كيفما يحلو لي، وإذا ما حدث لا قدر الله فأحفر قبرا وأكتب عليه شاهد باسم البيت، كل بيوت غزة المدمرة يجب أن تفتح لها مقبرة جماعية وتسمى مجزرة بيوت غزة.. مقبرة بيوت غزة ويكتب اسم البيت وتاريخ ولادته وبنائه.. نعم يجب أن تفتح مقابر في كل فلسطين باسم مقابر بيوت غزة ...!!

وعليكم أن تفتحوا بيوت العزاء لكل بيت دمرته طائرات الغدر في غزة، افتحوا بيوت العزاء في بيوت أهل غزة في اللد وحيفا ويافا والقدس والضفة وفي كل فلسطين وخارج فلسطين، علموهم أننا شعب واحد وأننا نبكي بيوتنا كما نبكي شهداءنا، علموهم أننا لا ننسى شهداءنا كانوا لحم ودم أم حجارة...!!

حسنا عدت مرة أخرى أحاول أن أسترق بعضا من الحياة العادية في يوم عيد غير عادي، يصلني في هذه اللحظة اشعار من الفيس بوك بأن احدى منشوراتي هي مخالفة لمعايير المشاعر وقد تخدش مشاعر أحدهم في هذا العالم المسعور.. أضحك وأضرب كفا بكف لا حول ولا قوة الا بالله.!! ماذا أقول أنا الآن عن خدش مشاعر أحدهم على الفضاء الملعون، ومدينتي تباد عن بكرة أبيها، وقطاع غزة كله تحت القصف والقتل والذبح العلني أمام شاشات التلفاز، لقد خدشت طائرات الاحتلال الإسرائيلي أجساد أطفال غزة فجعلتها قطع متناثرة، وخدشت روح عائلاتنا ونسائنا ورجالنا وشبابنا وشاباتنا ...!! لا أعرف أنا التي لا تحتمل أن تشاهد صورا فيها قتل أو دماء ولست أتداولها بالعادة ولا أقوم بنشرها، لكن هذه الصورة التي نشرتها تظهر مشهدا لبيت سحق بالتراب ورجل دفاع مدني يحاول أن ينقذ شابا لم يظهر منه سوى ساقه اليسرى والباقي تراب...!! قلت: صباحا لبعضه من بعضه، وقلت سلاما على بعضه الآخر...!!! أي فضاء معتوه هذا الذي يقتلنا مرات ومرات ويحبس أنفاسنا التي نحاول أن ننجو فيها من الحرب...!!

القلق رفيق دائم في القصف، يبدو بيتك كساحة حرب، تجمع الأحرمة في مكان وكأنها ساتر؟!! كل الأبواب مشرعة تكاد تلتصق بالمقعد كي لا تطير من شدة القصف في أوقات الذروة وهي أوقات ليلية بامتياز لم يعد أحد في غزة يحب الليل ولا سهراته، غزة لم تعد تنام ولم تعد تغفو تبدو مسهدة على أبنائها، تضم أحدهم فيهرع الآخر فتسرع لتحتضن الآخر والآخر، أما من لا ينبضون فتدفنهم في قلبها وتبكي في سرها، والبيت حزين كلما هرع أصحابه خارجه، والبيت حزين كلما التصق أحد أصحابه به فباتت حجارة البيت جزء من ظهره ويديه...!!

نتقافز مع اغلاق الباب بعنف، ثم نعود نمتلك رباطة جأشنا، ونضحك في سرنا نعم نموت الآن ألف مرة لكنها المرة الأولى التي نرى عدونا قد غدا قلقا.. يا إلهي ما يزيد عن مليوني بني آدم تحت القصف الإسرائيلي الهمجي في قطاع غزة على مدار أسبوع كلهم قلقون كلهم لا ينامون لكن رأسهم في السماء فهذه أرضهم وهذه سماؤهم تلك التي تلوثها الطائرات...!!

أعود وأعود أحاول صناعة ساعة عادية في أسبوع غير عادي أصنع القهوة وأنساها على الطاولة فقد اهتز البيت من انفجارات قريبة ومتتالية عائلة أخرى في المحيط قد مادت بالأرض، ثلاثة طوابق أصبحت أثر بعد عين.. أصوات الإسعافات تملأ المكان، صمت مخيف يحيط بكل شيء، فجأة قصف عنيف على بيت آخر وآخر وآخر.. تنقطع الكهرباء ينقطع الانترنت ينقطع اتصالك بالعالم؟؟!! الانفجارات تتوالى والاهتزاز لا يتوقف، صوت الطائرات الهمجية أعلى من صوت أولادي، ومن صوت مواء القطط الصغيرة ذات الثلاثة أشهر، التصق بالمقعد مرة أخرى وأحدق في عيون الجميع والصمت يكللنا...!!

نحن لا نتعب من الموت نحن نتعب لأننا نلاحق الحياة نركض خلفها في كل شارع وفي كل زقاق، كلما حاصرنا القتل والإرهاب والتدمير كلما زرعنا بسمة أو وردة في وسط الركام لننشد الحياة، لا تتركينا الآن في هذا الجنون؟؟!! لا تكوني بهذه القسوة لم نعهدك تلقين بنا جميعا دون رحمة.. فنحن لا نتعب من الموت نحن نتعب من الحياة ...!

ـــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية تعيش في قطاع غزة