تحقيقاتٌ استقصائية أصابت فسادًا في "عينه" عام 2020م
تاريخ النشر : 2020-12-31 09:06

غزة/ شبكة نوى- فلسطينيات:

سُر الصحفي الفلسطيني يحيى اليعقوبي كثيرًا، حين علم أن الجهات الرقابية بدأت بمراجعة أصحاب المراكز التجارية الكبيرة "المولات"، للوقوف على حقيقة وضع أجور العمال فيها.

رد فعل اليعقوبي، جاء كونه صاحب التحقيق الصحفي الذي نشرته شبكة "نوى" خلال عام 2020م، وأثبت فيه أن الأجور دون الحد القانوني الأدنى، ليكون واحدًا من أبرز المعالجات الاستقصائية المُنجزة على مستوى قطاع غزة.

في هذا التحقيق كشفت "نوى"، عن وجود فجوة في الحقوق العمالية داخل تلك المراكز، من حيث تدني قيمة الراتب بالنظر إلى معدل ساعات العمل، والحرمان من الإجازات السنوية. وخلص إلى مطالبة نقابة العمال، لوزارة العمل، تشديد الرقابة على أجور عمال "المولات".

ويتذكر اليعقوبي "بألم" لحظة لمعت الفكرة برأسه، عندما شاهد عاملًا في أحد "المولات"، أنهى للتو دوامه اليومي (من الثامنة صباحًا حتى الثامنة مساءً)، يُلح على زميله الذي يوشك على دخول بوابة المول، ليبدأ دوامه الليلي بالقول: "بس أعطيني اثنين شيكل بدي أروّح فيهم".

أظهر تحرك اليعقوبي، وقوع انتهاكٍ لنصوص قانون العمل الفلسطيني التي تلزم أصحاب المصلحة بمضاعفة سعر ساعة العمل الإضافية،  وهو ما لم تلتزم به "المولات التجارية".

وأظهر تحرك اليعقوبي، وقوع انتهاكٍ لنصوص قانون العمل الفلسطيني التي تلزم أصحاب المصلحة بضرورة مضاعفة سعر ساعة العمل الإضافية، خاصةً في الأعمال الليلة، وهو ما لم تلتزم به "المولات التجارية"، التي اكتفت بمنح العمال مكافأةً زهيدة، عن طيلة أيام العمل الإضافي، تراوحت ما بين 100-200 شيقلًا.

يقول يحيى لـ "نوى": "الصعوبات بدأت منذ اللحظة الأولى لإعداد التحقيق، حينما بدأ العمال يتهربون من المقابلة لأسباب عدة، منها الخوف من الطرد، الخوف من المقابلة الصحفية، ورويدًا أقنعت العديد منهم بأهمية الحديث".

"وجع رأس"

في هذا السياق، يؤكد الصحفي فراس الطويل، أن المهنية في معالجة وطرح التحقيقات الاستقصائية، هي الدرع الأول للصحفي، "وفي العمل الصحفي الاستقصائي، فإن التأكد من عدم خروج المعالجة عن القانون، بعرضها على أحد المحامين، يعد أمرًا ضروريًا، ويساعد الصحفيين والمؤسسات الصحفية والجمهور، على توفير درعٍ ثانٍ من الحماية للصحفي الاستقصائي".

تناول تحقيق الطويل، الرسوم على السندات العدلية والوكالات والعقود، التي أثبت مخالفتها للقانون الأساسي، حيث يتقاضى المحامون بالمتوسط نحو 40 مليون شيقل سنويًا للمصادقة على تلك السندات.

وأنجز الطويل تحقيقيين استقصائيين، أولهما تناول قضية استخدام المبيدات الحشرية، واستغرق إعداده ثلاث سنوات، ليخرج بنتائج صادمة تثبت زيادة نسبة متبقيات المبيدات في المنتجات الزراعية عن المستوى العالمي، في جميع محافظات الضفة الغربية المحتلة، "وذلك لغياب الرقابة من قبل وزارة الزراعة على عمل المزارعين".

أما التحقيق الثاني فتناول الرسوم على السندات العدلية والوكالات والعقود، التي أثبت الطويل مخالفتها للقانون الأساسي، حيث يتقاضى المحامون بالمتوسط نحو 40 مليون شيقل سنويًا للمصادقة على تلك السندات.

ويقول لـ"نوى": "ما زالنا بحاجة إلى إيمان أكبر بقدرة هذه الصحافة على التغيير، المؤسسات الإعلامية واقتناعها بهذا النوع من العمل الصحفي ما زال في غير محله، على اعتبار أنه عملٌ مكلف (وبيجيب وجع الراس)"، مطالبًا بتوفير هامش مهني أكبر للصحفيين الاستقصائيين، كي يتمكنوا من أداء مهاهم في الكشف عن الفساد لتحقيق المصلحة العامة".

فن المماطلة الحكومية

في حين تضيف الصحفية رشا فرحات: "على الصحفيين الاستقصائيين امتلاك نفس طويل من أجل تحقيق هدف الاستقصاء، الذي تقابله الجهات الحكومية بفن المماطلة، معتمدة على ضجر الصحافي".

وتوصي في حديث لـ"نوى" الصحفيين بضرورة التمتع بالصبر، وأهمية الدقة وتوثيق الأدلة حتى يحفظ الصحفي حقه القانوني، إلى جانب أهمية الاستشارة القانونية في كل خطوة من خطوات التحقيق.

وكانت فرحات نشرت تحقيقها المصور الذي حمل عنوان: "كيف فقد هؤلاء الرؤية في ساعة واحدة؟!" خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

أثبت التحقيق أن أدويةً وإبرًا ملوثة، تسببت في فقدانٍ كلي أو جزئي للبصر، لعدد من المرضى خضعوا لعمليات جراحية بسيطة في مركز طبي بغزة.

التحقيق استغرق إنجازه عامًا كاملًا من الجهد والمتابعة، حيث زادت أزمة فايروس "كورونا" من معاناة التقصي، "لكن أصعب ما واجهته، هو مماطلة وزارة الصحة التي أضاعت الوقت في وعود متابعة القضية، حتى رفضت في النهاية التعقيب عليها"، تقول.

وأثبت التحقيق أن أدويةً وإبرًا ملوثة، تسببت في فقدانٍ كلي أو جزئي للبصر، لعدد من المرضى خضعوا لعمليات جراحية بسيطة في مركز طبي بغزة.

ودفع تحقيق فرحات بوزارة الصحة، إلى وضع بروتوكول طبي جديد، لنقل الأدوية والحقن المجمدة يتماشى مع قوانين النقل، كما تم السعي لتعويض المتضررين من الحقن الفاسدة.

دق لجدران الخزان

بدوره يقول الصحفي إبراهيم عنقاوي: "بالرغم من وجود استجابةٍ لدى المسؤولين حيال نتائج التحقيقات الاستقصائية بشكل عام، إلا أننا نفتقد في فلسطين للعمل الجاد في مكافحة الفساد، وضبط إدارة المال العام".

ويشدد على أن التحقيقات تدق جدران الخزان بوجود شبهة فساد في مؤسسة أو قضية معينة، وتحتاج إلى متابعة وتحقيق رسمي وعلاج.

وقبل أسابيع قليلة، تفاجأ الصحفي عنقاوي بفتح تحقيق في نيابة جرائم الفساد، حول قضية "تبييض تمور المستوطنات" التي تناولها في تحقيقه. كما راقب باهتمام مطالبة الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" بالإسراع في إحالة المتورطين إلى محكمة جرائم الفساد، وعلاج القضية.

كشف عنقاوي عن شركات وهمية لتبييض تمور المستوطنات بأسماء فلسطينية، حتى يسهل إخراج أطنان منها إلى الأسواق العربية.

ويعود سبب دهشة عنقاوي، إلى أن تحقيق "تبييض التمور" أُنجز في عام 2014م، حين لاحظ وجود تمور كثيرة في الأسواق تحمل وسم شركات متعددة أو بدون أسماء، وتزامن ذلك مع قرار الاتحاد الأوروبي، بوسم بضائع المستوطنات في السوق الأوروبية، مما يعني أن الوجهة الأكبر لتصدير تمور المستوطنات الإسرائيلية ستكون فلسطين والدول العربية.

وبالفعل كشف عنقاوي عن شركات وهمية لتبييض تمور المستوطنات بأسماء فلسطينية، حتى يسهل إخراج أطنان منها إلى الأسواق العربية.

وقد ذهب عنقاوي إلى مستوطنات الأغوار المحتلة كتاجر، حيث تزرع التمور وتوجد مصانع تغليفها، وهناك عرض على بعض أصحاب المصانع من المستوطنين، شراء كميات من التمور شرط أن يتم تغليفها باسم الشركة التي يختارها.

ويروى عنقاوي لـ"نوى" تجربته في إعداد التحقيق، بالقول: "كانت تجربة جديدة وصعبة، الدخول إلى المستوطنة بكاميرا سرية، ومتابعة مهربي ومبيضي التمور، الذين كان بعضهم مستوطنين، وبعضهم الآخر فلسطينيين".

تحديات قائمة

بدوره، يؤكد مدير مكتب ائتلاف "أمان" في قطاع غزة وائل بعلوشة، أنه لا يمكن تقييم التحقيقات الاستقصائية هذا العام، بمنأى عن الأعوام السابقة، مشيرًا إلى وجود تطور في أداء الصحفيين الاستقصائيين، عززه الفهم العام من قبل المؤسسة الرسمية والمواطنين، لأهمية الاستقصاء، ودوره في مكافحة الفساد، وزيادة عدد منصات النشر.

هناك تطور في أداء الصحفيين الاستقصائيين، عززه الفهم العام من قبل المؤسسة الرسمية والمواطنين، لأهمية الاستقصاء، ودوره في مكافحة الفساد، وزيادة عدد منصات النشر.

في الوقت نفسه، يوضح بعلوشة أن تحديات عمل الصحافة الاستقصائية، القائمة منذ سنوات، لا تزال مستمرة، ولعل أهمها: قانون الحق بالحصول على المعلومات، والأرشيف الوطني، وحماية المبلغين على الفساد.

ويشدد على أن التحقيقات، "تُعدُّ أحد أهم منصات المساءلة المجتمعية، والرقابة، والمتابعة لإدارة المال العام، وهي رأس الحربة في الكشف عن الفساد، وملاحقة كل أشكاله في المجتمع الفلسطيني".

ويأمل بعلوشة بأن يتعاظم تأثير هذا الدور، بتحسين البنية التحتية لصحافة الاستقصاء، مشددًا على ضرورة أن يتحرى المحقق الاستقصائي المتطلبات المهنية، ويحصن نفسه قانونيًّا بشكل جيد، وأن تكون منصات النشر أكثر جرأة في استيعاب هذا الفن المهم.

لا بد أن يتحرى المحقق الاستقصائي المتطلبات المهنية، ويحصن نفسه قانونيًّا بشكل جيد، وأن تكون منصات النشر أكثر جرأة في استيعاب هذا الفن المهم.

وينصح مدير مكتب "أمان" في غزة، الصحفي الاستقصائي، بالتنبه أكثر للوضع القانوني، محتميًا بالثقافة القانونية العامة، لتجنب الوقوع تحت طائلة القانون.

ويضيف: "على الجهات الرسمية أن تصل إلى قناعة، وثقة كاملة، بأن التحقيقات الاستقصائية موجهة ضد شبهات الفساد، ثم التعامل معها برحابة صدر، وتوفير الحماية للصحفي، من أجل معالجة كل الشبهات، بما يصب في مصلحة المجتمع الفلسطيني كله".