بين الديمقراطية والشعبوية والحكومة الفلسطينية
تاريخ النشر : 2020-12-29 16:28

شبكة نوى:

لازالت النيابة العامة تحتجز الشابة سماء عبد الهادي، إحدى المشاركات في تنظيم حفل موسيقى الكترونية (التكنو) في مقام النبي موسى الواقع ما بين مدينتي القدس وأريحا، منذ مساء يوم الأحد الموافق 27 كانون الأول الجاري على غير حق، رغم عدم مسؤوليتها عن ترخيص ذلك الحفل والتصريح بإقامته، وهي لم تشارك أصلاً في إقامته عنوة عن شوارب الحكومة الفلسطينية.  جاء احتجاز عبد الهادي لتقديمها قرباناً من قبل الحكومة الفلسطينية أمام إله الخطاب الشعبوي ترضية له وطلباً للمغفرة على ما اقترفته من خطأ منح عبد الهادي تصريح مكتوب لإقامة الحفل.  هذا رغم أن الحكومة تعلم جيداً، أو تتغافل بحماقة عن علم أن الخطاب الشعبوي الغاضب هو موجه أساساً ضدها، وضد الحكومات التي سبقتها، وعدم الثقة بالقيادة الفلسطينية، وليس موجهاً ضد كبش الفداء سماء عبد الهادي.

للأسف، رئيس الحكومة الفلسطينية د. محمد اشتية، ليبرالي التوجه، ووزراء حكومته ليبراليون أيضاً، وممثلون عن حركة فتح والتنظيمات اليسارية، وحكومته لا تضم من حيث الأساس في عضويتها أي ممثلين لتيار الإسلام السياسي أو أي تيار محافظ، إلا أن أدائها الاجتماعي شعبوي حتى النُخاع، في محاولة تسعى فيها للتماهي مع الخطاب الشعبوي الالكتروني تقرباً منه، ليقين الحكومة المسبق بضعفها في ظل عدم شرعنتها من قبل مجلس تشريعي منتخب.

حكومة د. اشتية تعيش حالة ازدواج الشخصية (Multiple Personality Disorder)، فهي تسلك سلوك شخصيتين مختلفين، وانفعالاتها متناقضة، وقضية مقام النبي موسى مثال جيد لهذه الحالة، فمن ناحية توجهت الحكومة منذ العام 2017 لترميم المقام وتشغيله سياحياً من قبل القطاع الخاص، وتُوّج ذلك التوجه بافتتاح الدكتور اشتية في شهر تموز المنصرم المقام بحلته الجديدة، بعد ترميمه، في حفل تخلله مقطوعات موسيقية وعروض فنية، معلناً توجه حكومته لاستقطاب مزيداً من السياح الدوليين، وعلى هذا الأساس منحت وزارة السياحة تصريحاً مكتوباً للشابة عبد الهادي ومجموعتها يُحدد المكان "مقام النبي موسى"، والزمان "26 كانون الأول"، وطبيعة النشاط "أداء موسيقى الكترونية".  في المقابل سلكت الحكومة سلوك الشخصية المحافظة المُتفهمة للغضب الشعبوي المحافظ واحتجزت عبد الهادي المتحررة التي تُحاول تمزيق النسيج الاجتماعي الفلسطيني!!!.

وفي مقام النبي موسى هو بناء أثري مملوكي بُني في زمن الظاهر بيبرس سنة 1269م، بناء على طلب صلاح الدين الأيوبي الذي ابتدع ظاهرة "المواسم" في فلسطين، ورُمم من قبل العثمانيين عام 1820، وأخذ طابعاً أثرياً اجتماعياً، وتسعى السلطة الفلسطينية لاستثماره سياحياً.  والحفل المُصرح له من قبل جهة الاختصاص "وزارة السياحة" اُقيم في ساحة سوق البازار حيث من المفترض أن يتوسط فندقاً يشمل حوالي 20 غرفة فندقية سياحية، إلى جانب مطعم وقاعات للمناسبات.  وإن كان على أحد تحمُل المسؤولية، فوزيرة السياحة في مقدمتهم، بداية من انكارها إصدار التصريح، وهذا تشويه مقصود للرأي العام، وسقوطاً في مستنقع الشعبوية، وصولاً إلى فشل الوزارة في إدارة الموقع التراثي.

للأسف مرة أخرى، حكومة د. اشتية، وحركة فتح الليبرالية، تتماهيان مع الخطاب الشعبوي المُحافظ، على حساب سيادة القانون، وبناء المؤسسات الديمقراطية، بما فيها النقابات التي تقودها حركة فتح، فنقابة المحامين على سبيل المثال، لديها قانون ناظم لعملها يملي عليها ممارسة النشاطات لتحقيق هدف تكريس سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، من بين الأهداف الأخرى، إلا أنها وقفت موقفاً صلباً ضد قرار بقانون الضمان الاجتماعي، وإصدار قرار بقانون حماية الأسرة من العنف، ولم نسمع لها صوتاً داعماً لمطالب حراك الأشخاص ذوي الإعاقة بنظام تأمين صحي شامل وعادل ، وهي قوانين وأنظمة تؤسس للحماية الاجتماعية وتُحصن المجتمع.

وقد طولبت حكومة د. اشتية في أكثر من مناسبة، رئيساً وأعضاءً، بإعلان رؤيتها الاجتماعية، وتوجهها لإعمال الحماية الاجتماعية، في ظل تخوفها من دعم قانون حماية الأسرة من العنف، وتجمدها أمام إعادة طرح قرار بقانون الضمان الاجتماعي، ومساومتها لحراك الأشخاص ذوي الإعاقة على حقهم في حياة كريمة تضمن لهم تأمين صحي عادل وشامل. وهي حكومة لم تختلف عن سابقاتها، فقد ضعُفت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة منذ الانقسام السياسي، لغياب الانتخابات والمجلس التشريعي، وفقد الشارع الفلسطيني ثقته فيها، وتراكم فقدان الثقة، خاصة في ظل العلاقة الحميمية بين الحكومة والقطاع الخاص، وغياب أجندة الحماية الاجتماعية عنها وعن أدائها وسلوكها وانفعالاتها.

على الحكومة الإفراج الفوري عن عبد الهادي، التي أقامت هي ومجموعتها نشاطات مماثلة سابقة، ولها أن تُقيم غيرها مستقبلاً، والاعتذار لها، وتعويضها عن احتجازها وحرمانها من حريتها، فالأصل، وقانونياً، على الحكومة ملاحقة مقترفي انتهاك القانون، سواءً من قام بفض النشاط، أو الاعتداء على محتويات المقام وأثاثه وتكسيره، وهو اعتداء موثق ومصور ومقترفو هذا الفعل الهمجي يفتخرون به.  وعلى الحكومة الإعلان رؤيتها الاجتماعية، أي مجتمع فلسطيني تريد؟ وتسلك في ممارساتها بناءً على هذه الرؤية.

وعلى د. اشتية إن أراد الاستمرار في العمل السياسي العام، وتبوؤ المناصب القيادية، ألا يُسجل على نفسه قيادة حكومة ضعيفة، وأن يضغط باتجاه إجراء الانتخابات العامة، وقيادة حكومة قوية مشرعنة من قبل المجلس التشريعي.  وعلى حركة فتح العملاقة أن لا تتماهى مع هذا الخطاب اليميني المُحافظ، فهي الأقدر كحركة تحرر وطني غير أيديولوجية، أن تكون حاضنة لكل أطياف المجتمع، مُحصنة جبهتها الداخلية بمجتمع متعدد الرؤى والتوجهات، ديمقراطي النقاش، تُحترم فيه الحريات العامة وحقوق الإنسان.

في النهاية، الديمقراطية تعني، التعددية وقبول الآخر، ومن يريد تغيير البُنى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، فليتوجه إلى صناديق الاقتراع، وعلى الأحزاب السياسية والكتل استنهاض قواعدها، وخوض غمار المنافسة لتمثيل الشعب في البرلمان، وتشكيل حكومة قوية، عوضاً عن هذا الانهيار الداخلي والقيمي في كافة المجالات، جميعكم مسؤولين والتاريخ لن يرحم.

 

[1]  باحث في مجال حقوق الإنسان، ومنسق أعمال مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية