عن اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل
تاريخ النشر : 2020-10-31 19:50

بينما لا يزال الفلسطينيون من ساسة ومحللين سياسيين منشغلين في صياغة ردود الفعل تجاه اتفاقيات التطبيع الإسرائيلي - الإماراتي، يستمر صانعو الاتفاقية ومروجوها بالعمل على تثبيتها وتوسيعها لتضحي أمرا واقعا يعكس قاعدة معيارية للتفكير المحوري للعلاقات الإسرائيلية - الإماراتية في ظل تبعات غير مرئية للقضية الفلسطينية ومستقبلها. في هذا الصدد، انقسمت الآراء الى مجموعة تنادي بالتنديد والمقاطعة للدول الموقعة ومجموعة أخرى تنادي بضرورة التعايش مع هذا الواقع على أساس الدعوة الى ضرورة إحداث نقلة نوعية في أسلوب التعاطي مع تبعات هذه الاتفاقيات. الأمر الغريب هو أن نبأ التوقيع أدى الى شبه ثورة سياسية وإعلامية وخاصة لدى الأوساط الفلسطينية التي يبدو أنها تفاجأت بهذا الحدث.
لا بد من الإشارة الى بعض الحقائق المهمة، أولها أن هذا التطبيع لم يكن وليد اللحظة ولم يأت من فراغ وإنما هو نتاج سنوات من العمل وفق خطة إسرائيلية ممنهجة بدأت تتشكل منذ قيام دولة إسرائيل وان كانت سرية في السابق إلا أنها أخذت الطابع العلني منذ بداية مؤتمر مدريد لعملية السلام في الشرق الأوسط العام 1991. ويمكن القول، إن هذا التطبيع بدأ بشكله الرسمي منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل العام 1978 ومن ثم من خلال التوقيع على اتفاقيات أوسلو العام 1993. فتحت هذه الاتفاقيات البوابة العربية على مصراعيها وأتاحت لإسرائيل، التي استغلت الفرصة مدعومة بمشاريع المجتمع الدولي السياسية والاقتصادية والثقافية، اختراق الدول العربية علنا بعد أن كان التعاون العربي الإسرائيلي أمرا مستهجنا. أذكر كمثال بداية انعقاد المؤتمر الاقتصادي في المغرب العام 1995 تحت إشراف المنتدى الاقتصادي العالمي وما تلاه من مؤتمرات ولقاءات تحت غطاء التعاون الإقليمي والمبادرات السياسية والثقافية والأكاديمية التي يسرتها الدول والمؤسسات الأوروبية والأميركية منذ تسعينيات القرن الفائت.
وعلى هذا الأساس، اشترك العديد من الفلسطينيين والعرب على المستويين الرسمي والشعبي في هذه المبادرات وخاصة إبان حكومات «اليسار» التي لم تدم طويلا قبل مجيء اليمين الى الحكم في إسرائيل. اعتقد العديد من المشاركين في هذه المبادرات أن إثبات الاعتدال والانفتاح على الآخر الإسرائيلي يساهم في تغيير الصورة النمطية التي تم ترسيخها في الذهنية العالمية عن الفلسطيني كإرهابي ورافض للسلام. وهنا لا بد من التذكير بالنتائج السلبية التي أدى إليها انشغال القيادة الفلسطينية خلال السنين الماضية باستخدامها الخطاب السياسي الدولاني وليس الحقوقي الذي يرتكز على التذكير بواقع سلطة الحكم الذاتي المحدود والمقيد في ظل استمرار الاحتلال والذي لا يسمح له بأن يتطور الى دولة على شاكلة الدول التي تأسست إبان تفكيك الاستعمار.
في نفس السياق، نجحت المنظومة الإسرائيلية - الدولية وخاصة في مرحلة ما بعد اعتداءات أيلول 2001 في إعادة تشكيل المنطقة العربية والتي كان من أبرز تجلياتها استهداف القادة العرب الشباب لإدماجهم بالحداثة والعولمة والتوجهات النيوليبرالية والأنشطة الإقليمية والعالمية لمحاربة الإرهاب والذين بدورهم اعتقدوا أن مجرد أن يكونوا جزءا من هذه التوجهات والأنشطة يؤهلهم لللابتعاد عن وصمة الإرهاب والتخلف التي التصقت بالعالم العربي. في المحصلة، نجحت الأهداف الاسرائيلية المدعومة دوليا في السعي لتمرير وشرعنة التطبيع ومأسسة إدماج إسرائيل في المنطقة.  
ثاني هذه الحقائق هو أنه بصرف النظر عن تفسيرات البعض بشأن مبررات التطبيع  على أساس أن هذا التحالف الإقليمي الجديد الإسرائيلي الخليجي العربي السني يعتبر ضرورة استراتيجية لمواجهة العدو الإيراني الشيعي، ان من يعي ماهية العلاقات الدولية التي تحتكم الى الواقعية كمنهجية عمل، يدرك تماما أن الدول تعتمد في علاقاتها على المصالح والقوة التي تساعدها على البقاء، ولا تعتمد على ما يمكن أن يتسم بالمثالية أو القيم والمشاعر القومية. ففي عالم ما بعد العولمة وما بعد النيوليبرالية وما بعد «كورونا»، سيطرت مظاهر الفردية والبقاء الذاتي على المشهد العالمي، وبشهادة الأمين العام للأمم المتحدة في دورتها الخمسة والسبعين، أظهرت الجائحة مدى هشاشة منظومة التعاضد الدولي وأثرت سلبا على معالجة الأزمة بشكل جماعي. لذا لا يمكن أن يختلف الوضع العربي، اليوم، عن السياق الدولي لا بل يمكن أن يكون أسوأ في ظل انهيار ما كان يعتقد أنه يشكل قاعدة للتضامن العربي على الأقل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
واقعيا، تستمر مناطق التماس بالهدوء على كل الجبهات، ولم يأت أحد لنصرة القدس ولا الأقصى لا منذ ضم القدس العام 1967 ولا منذ إعلانها العاصمة الأبدية لإسرائيل واعتراف ترامب بها ونقله السفارة الأميركية إليها العام الماضي.   
تخطئ المجموعة الأولى باعتقادها أن سياسة التنديد والحرد والانسحاب تؤدي الى نتائج إيجابية يمكنها التأثير على مجريات الأحداث. انه لمن المؤسف أن نذكر منهجية عمل الجانب الإسرائيلي خلال الأعوام الماضية التي اعتمدت استراتيجية ثابتة استندت الى المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين وطموحاته في المنطقة بصرف النظر عن الحزب الحاكم سواء كان من اليمين أو اليسار. لكي ندافع عن قضيتنا ووجهة نظرنا، يجب أن نثابر ونصمد وخاصة أن هناك أوجها متعددة للنضال منها العلني وغير العلني ان استندت الى توجه استراتيجي استشرافي وليس فقط الى سياسة رد الفعل. لا يجب أن يتوقف العمل السياسي والدبلوماسي وان كانت بعض المواقف السياسية  تتطلب الحدة في بعض الأحيان. لعل من النتائج الإيجابية لهذه الأزمة ان أمكن تسميتها، هو انها تشكل فرصة تاريخية لمراجعة شاملة لأساليب النضال بناء على أساس اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم والتوقف عن انتظار الحلول من الخارج، فلا يمكن أن نحصل على التحرر من الاحتلال الاستيطاني الإحلالي لدى توكيل الأطراف الخارجية مساعدتنا.  
أما المجموعة الثانية والتي تنادي بضرورة إحداث نقلة نوعية في التعاطي مع هذا الواقع الجديد من خلال إعادة تحشيد الرأي العام العربي، يجب أن نعي التحديات التي تواجه هذا الطرح في ظل الأوضاع العامة التي تحكم الواقع العربي، اليوم. فبالرغم من أن نتائج المؤشر العربي 2019-2020 الصادر عن المركز العربي للأبحاث والسياسات يشير الى مركزية القضية الفلسطينية على أساس أنها قضية العرب جميعا وليست قضية الفلسطينيين وحدهم وأن إسرائيل تشكل المصدر الأكثر تهديدا على استقرار المنطقة وأمنها، يجب التفريق بين الرأي العام العربي والقيادات بمعنى الحكومات والتي تتشكل، اليوم، من جيل جديد من القادة العرب الذي نشأ في مرحلة ما بعد بدء عملية السلام والذي يفتقد التجربة القومية أساسا ويعتقد أنه بتعاونه مع إسرائيل يضمن العبور الى بوابة أميركا ظنا منه أنها سيدة العالم.
لا يزال العالم العربي يعاني من فجوة الديمقراطية ما بين الحكام والشعب والتي تنبأ بها تقرير التنمية العربية الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي العام 2002 والذي فشلت الحكومات العربية في تنفيذ الحد الأدنى من توصياته المتعلقة بتحسين ظروف الشباب والمرأة وأنظمة الحكم والتنمية المستدامة ما أدى الى الانتفاضات المتتالية للربيع العربي والتي للأسف أدت معظمها الى نتائج عكسية لم تساهم في تغيير الواقع العربي الى الأفضل. من الصعب أن نتخيل تحرك الشارع العربي الذي يعيش في حالة انهاك دائمة في ظل الدولة الريعية والتي تستمر في تغييب مواطنيها عن مركز القرار وفي ظل الحروب بالوكالة والفساد الممأسس، الأمر الذي أدى الى تشعب المآسي على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والفكرية.
لكي ننجح في إعادة موضعة القوة الأخلاقية للقضية الفلسطينية وإعادة التوازن في شكل العلاقة مع كل من الرأي العام العربي وحكامه الجدد، لا بد من العمل على توحيد الخطاب الفلسطيني أولا وذلك بالاستناد الى إعادة المصداقية الداخلية للرواية التاريخية الفلسطينية ومن ثم صياغة استراتيجية شاملة على كافة الأصعدة وتحديد أدوات العمل السياسي والفكري والثقافي، آخذين بعين الاعتبار كافة العوامل التي تحكم السياق العام واستنادا الى دراسات علمية حول مجالات التحرك والبناء على نقاط القوة والنجاحات الجديدة في العمل الوطني الفلسطيني مثل حركة المقاطعة التي نجحت في عدد كبير من الدول الغربية والأجنبية والتي تشكل إضاءة مشعة للاستمرار بإيماننا أننا نمتلك مشروعا وطنيا يمكننا الدفاع عنه.