الصين وعبء حماية أمن الخليج
تاريخ النشر : 2020-10-03 11:03

أثارت سياسة الانخراط المحدودة التي تتبعها واشنطن في المنطقة منذ عقد تقريبا، والتي على أثرها تفاقمت التكهنات الخليجية بشأن سيناريو مرجح لانسحاب عسكري أمريكي تام من المنطقة؛ الحديث عن إمكانية اضطلاع الصين بعبء حماية أمن الخليج بدلا من واشنطن على اعتبار أنها القوة ذات الحضور الاقتصادي الأكبر في الخليج، وصاحبة المصلحة الأولى في استقرار وأمن الخليج وبالأخص في مسألة حماية إمدادات النفط الخليجية للصين.

ففي سياق مبادرة الحزام والطريق ارتقت العلاقات الصينية مع دول الخليج الست إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية خلال الأعوام القليلة الماضية. مما ساهم على نحو كبير في ترجيح سيناريو اضطلاع الصين بعبء الحماية الخليجية لاسيما وأنها رغبة خليجية أيضا.

وللوقوف على حقيقة ترجيح هذا السيناريو - والذي يبدو لدى البعض منطقياً للغاية، بل ووشيكا أيضاً - نحتاج إلى التمعن في عدة جوانب وحقائق جوهرية على أرض الواقع، ومنها ما تبديه الصين الآن بالفعل من سياسات في المنطقة، تشير في مجملها إلى استحالة تحقيق هذا السيناريو على الأقل خلال المدى المتوسط، وبل والأدهى من ذلك فإنها تشير أيضا إلى عدم وجود رغبة قوية لدى الصين في التورط في أي دور أمني ولو محدود. وإن كان ممكناً في المدى البعيد لكنه في الأغلب سيتحقق وفقا لأنماط وشروط وسياقات مختلفة تماما عن نمط الحماية الأمريكي التقليدي الذى استمر لعقود.

أولى تلك الحقائق، ولعل أهمها على الإطلاق، هي استمرار التواجد العسكري القوى في منطقة الخليج العربي. وإن كان مبعث هذا التواجد في الأساس لحماية المصالح النفطية لواشنطن، مما جعل الكثيرين من المراقبين يربطون بين احتمالية الانسحاب الأمريكي التام من المنطقة وثورة النفط الصخري الأمريكي بحيث اصبح اعتماد واشنطن على نفط الخليج لا يتجاوز 13 % من احتياجاتها السنوية. والواقع أن هذه الرؤية صائبة على نحو كبير، فتقليل انخراط أو اهتمام واشنطن بالمنطقة منذ 2009، أحد أسبابه الرئيسية تراجع أهمية نفط الخليج. ومع ذلك، لايزال لواشنطن مصلحة قوية للتواجد عسكريا حول منابع نفط الخليج، فتواجدها يضمن تأمين وصول إمدادات النفط لحلفائها الآسيويين وبخاصة كوريا الجنوبية واليابان، كما يضمن أيضا الضغط على دول الخليج للحفاظ على استقرار أسعار النفط في ظل التكلفة العالية لاستخراج النفط الصخري الأمريكي وصعوبة تنافسه مع نفط الخليج.

وبالتالي في ظل هذه المعطيات من الصعب تصور انسحاب عسكري أمريكي من المنطقة على المدى المنظور وربما المتوسط.

ولكن، وذلك على عكس ما يتصوره البعض، ان استمرار التواجد العسكري القوى لواشنطن في الخليج يتوافق تماما مع مصالح الصين، بل والأدهى من ذلك لا تزال الصين تدعم وتشجع، وبل وتقدر علنا دور الولايات المتحدة في الحفاظ على الاستقرار وتأمين ممرات نقل الطاقة في الخليج. طالما وصف أوباما الصين "بالراكب المجاني Free-Rider" التي تستفيد من الاستقرار وحماية إمدادات النفط في المنطقة الذى توفره واشنطن دون تكبد عناء أية أعباء مادية أو عسكرية في المنطقة. إذن مع ترجيح استمرار التواجد الأمريكي في المنطقة على المدى المتوسط، يصعب الحديث عن تصور أو استعداد الصين لتحمل عبء الحماية طالما كانت أكبر المستفيدين من التواجد الأمريكي، وغير مستعدة وغير راغبة بالفعل في الاضطلاع بعبء الحماية.

والحقيقة أن مجريات الأحداث الأخيرة في الخليج في خضم ما بات يعرف "بحرب ناقلات النفط" قد أظهر تماما عدم تطلع الصين إلى تولي عبء الحماية أو أن تحل محل واشنطن بشأن أمن الخليج على الأقل في المستقبل المنظور. فدعم الصين- ولو على مضض- مقترحات واشنطن بتشكيل قوة مشتركة لحماية ناقلات النفط، توضح بجلاء دعم الصين لأية مقترحات أمنية متعددة الأطراف في الخليج تضمن استمرار واشنطن بتحمل العبء الأكبر في هذا النظام الأمني. هذا فضلا عن تلميح الصين المتكرر بمشاركة غير قوية وغير قتالية تقتصر على مكافحة القرصنة والإغاثة الإنسانية، وهي موجودة بالفعل على أطراف الخليج كالصومال وجيبوتي.

ويبقى أمر أخير في هذا الصدد وهو أن التواجد العسكري في المنطقة يضمن للصين عدم تحويل التركيز العسكري الكامل على آسيا والمحيط الهندي التي تتطلع الصين إلى الهيمنة العسكرية عليها.

واحد أيضا من الجوانب والحقائق الرئيسية التي ترجح استبعاد استعداد الصين لتحمل عبء أمن الخليج يرتبط بشكل مباشر بمنظور الصين لتحقيق الهيمنة. فيمكن القول، فيما عدا المحيط الآسيوي القريب للصين ولأسباب متعلقة بالتوازن الاستراتيجي مع واشنطن وحماية مصالحها السيادية، لا توجد مظاهر توسع عسكري كبرى للصين في أي بقعة أخرى في العالم. فالصين الطامعة في الهيمنة على النظام الدولي تتبنى ما يسمى الهيمنة الناعمة عبر التغلغل الاقتصادي والذي يضمن لها ضمن جملة أمور الظهور بمظهر القوى الحميدة الحضارية، أو غير المتغطرسة وهو الأمر الذي يسبب استياء وكراهية شديدة لدى قطاعات كبيرة من الرأي العام خاصة في المنطقة وسيعيد ذاكرة الغطرسة الأمريكية في المنطقة ويجعل مصالحها الاقتصادية مرمى تهديدات إرهابية شتى.

وعلى الجانب الآخر، تضمن الصين عبر الهيمنة الحميدة الحفاظ على علاقة قوية مع جميع الأطراف المتصارعة والوقوف على مسافة واحدة من الجميع دون الانجرار في صراعاتهم السياسية أو الأيديولوجية، وهو الأمر الذى يمكن تسميته بنهج "البرجماتية الصينية" التي تضمن للصين أيضا الاستمرار في الحفاظ على مكتسباتها الاقتصادية المترامية في المنطقة لاسيما إمدادات الطاقة. ومن ثم، فانخراط الصين أمنيا في المنطقة سيحتم عليها الانحياز لأطراف على حساب أطراف أخرى، والتورط في مغامرات تضعف من قوتها، وتهدد من مصالحها في المنطقة خاصة تدفق إمدادات النفط ؛ العصب الرئيسي للتنمية الاقتصادية الصينية.

ويرتبط بما سبق، أن لدى الصين مفهومها الخاص بأمن المنطقة يطلق عليه البعض "حوكمة الأمن" قد أشارت إليه مرارا، فالصين ترى أن أمن المنطقة وتخفيف التوترات والتهديدات يتأتى من خلال التنمية الاقتصادية والرفاهية والحلول الدبلوماسية التوافقية وليس عبر التوازنات العسكرية أو الحلول العسكرية.

ونخلص مما سبق أن جميع المعطيات والمجريات في المنطقة، بما في ذلك ما أبدته الصين بالفعل من سياسات ومواقف بشأن أمن الخليج، لا تشير حقاً بإمكانية اضطلاع الصين بعبء حماية أمن الخليج، ولا حتى وجود رغبة صينية حقيقية لذلك على المدى المتوسط. بل على العكس فهي صاحبة مصلحة حيوية في استمرار تحمل واشنطن قيادة عبء أمن الخليج. كما أن التورط الأمني العسكري للصين في المنطقة في ظل علاقاتها الاستراتيجية مع جميع الأطراف المتصارعة في المنطقة، ولاسيما في منطقة الخليج إيران ودول المجلس، سيجعل الصين تنحاز لطرف على حساب طرف مما يفقدها الكثير من مكتسباتها الاقتصادية وخاصة أمن النفط. فالصين على النقيض تماما من واشنطن التي حددت مفهوم أمن الخليج في حماية أمن دول المجلس نظرا للعداء التاريخي بين إيران والولايات المتحدة.

ويبقى القول أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة وهو أمر مرجح بشدة على المدى الطويل، سيجبر الصين على مضض على تحمل عبء الحماية لكنها ستكون حماية انتقائية إلى حد كبير أشبه بنهج الانخراط العسكري المحدود للولايات المتحدة في المنطقة في الوقت الراهن، أي التركيز على حماية منابع وخطوط الطاقة، والتدخل عسكريا مجبرة لردع أية تهديدات إرهابية لمصالحها الاقتصادية وخاصة طريق الحرير الجديد. وكذلك من المرجح جدا أن الصين على خلاف الولايات المتحدة لن تصيغ مفهوما محددا لأمن الخليج بحيث تعادى طرفا على حساب طرف أو تضطلع بحماية أطراف محددة فقط، فالصين حرفيا ليس لها أية عدو إيديولوجي في المنطقة.

____________-

عن صحيفة الشرق القطرية