هارون هاشم رشيد: «غداةَ غَدٍ لنا النَّصرُ»
تاريخ النشر : 2020-09-14 14:23

"في غزة كانت النساء قوة هائلة. السيدات أوقدن فيَّ روح الكتابة من أجل الأطفال؛ فمن أوائل الأناشيد التي كتبتها للمدارس بناء على طلبهن. نشيد بلادنا: بلادنا بلادنا/ من أجلها جهادنا/ من أجلها استشهادنا. وكتبت بعد ذلك نشيد عائدون".                                      
هارون هاشم رشيد

سكنه الوطن، وسكنه الشعر، وسكنته السياسة؛ طيلة حياته (1927 - 2020)؛ فكان شاعر العودة، والسياسي المخضرم: "هارون هاشم رشيد".
نشأ في خان يونس، في بيت أدب وعلم وثقافة؛ والد لا ينام سوى على نغمات الشعر، ويصحبه يافعاً ليسهر معه، في "ديوان الشعر"؛ كي يستمع إلى شعر عنترة، وبعض قصص ألف ليلة وليلة، ووالدة تقرأ الشعر الموزون، المثير للشجن؛ وهي تنخل القمح المطحون ليلاً، وشقيقٍ شاعر: "علي هاشم رشيد"، وشقيقة شاعرة: "سهام هاشم رشيد".
عايش ثورة 1936، ومرحلة التقسيم؛ وتكوَّن لديه موقف سياسي ضد الاستعمار والصهيونية؛ لازمه عبر مشوار حياته.
حصل على الدبلوم العالي لتدريب المعلِّمين من كلية غزة، وعمل مدرِّساً حتى العام 1954، ثم تولّى، في العام ذاته، ولعدة سنوات، رئاسة مكتب إذاعة "صوت العرب" المصرية في غزة، وعندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية كان مشرفاً على إعلامها في قطاع غزة من العام 1965 إلى 1967. وبعد انتقاله إلى القاهرة (هرَّبه ثوار فلسطينيون بعد ملاحقة من الاحتلال الإسرائيلي)؛ تسلَّم مكتب المنظمة فيها، وأصبح ممثلها، ثم مندوباً لفلسطين، لمدة ثلاثين عاماً، في اللجنة الدائمة للإعلام العربي بالجامعة العربية.
سخَّر السياسة للشعر: "ما كنت أقوله شعراً كنت ألتزم به سياسياً".
بدأ الكتابة، منذ العام 1948، وأنتج خمسة وعشرين ديواناً شعرياً، وأربع مسرحيات شعرية، وبعض الدراسات، بالإضافة إلى عدد من المسلسلات الإذاعية، التي أذيعت في مصر وبعض البلاد العربية.
*****
كشفت شهادة الشاعر، حول المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية، منذ العام 1936 - ضمن مشروع التأريخ الشفوي، الذي بادرت إلى تنفيذه إدارة المرأة/ وزارة التخطيط والتعاون الدولي، نهاية التسعينيات - الكثير مما يضيف إلى مسيرته الشعرية والوطنية.  
لم يروِ عن فاعلية النساء، في المسيرة النضالية فحسب، بل روى أيضاً عن تأثير النساء على مسيرته الشعرية، منذ بداياتها.
وعبر شهادته؛ برزت أسماء نساء عديدات، نذرن أنفسهن للعمل السياسي، والتربوي الثقافي؛ ما شكَّل إضافة إلى التاريخ المدوّن، والأرشيف الفلسطيني.
*****
"ما بين 1936 - 1939: في يوم من الأيام حصل تجمّع كبير في جامع العُمري في غزة؛ طلعت مظاهرة، ومنها رجال الدين الإسلامي والمسيحي، وتوجَّهت في شارع عمر المختار إلى الشرق، حيث مباني الحكومة البريطانية - حالياً مدرسة الزهراء -، سُدّ الشارع بالأسلاك الشائكة، ووقف الجنود البريطانيون في حالة استعداد لإطلاق النار، والمظاهرة تتقدَّم. صرخ فيهم الجندي البريطاني: اللي رح يتقدَّم رح نقتله؛ فإذا بفتاة اسمها "رباب الحسيني" على أكتاف المتظاهرين تصرخ بهم: إلى الأمام، وتفرد العلم الفلسطيني.
لما صدر قرار التقسيم؛ كنت مدرِّساً في قرية "حمامة" - شمال شرقي غزة -، طرقت الباب سيدة عجوز، وقالت لي: "عايزه حفيدي، جايه أقول له: أنا طالعة نجدة لَـ "الخصاص"، - شمال شرقي غزة - قرية اليهود هاجموها الآن، البلد فزعت وأنا فازعة. طلّعت حفيدها، ورحت للناظر، قلت له: عيب علينا إحنا قاعدين؛ وفيه ست عجوز طالعة نجدة. وطلعنا؛ لقينا الناس فازعة، وكانت النساء أمام الرجال".
قبل 1948، كان البريطانيون يفرضون على الفلسطينية التي تعمل مدرِّسة ألاّ تتزوج. من الأخوات اللواتي تَرَهّبن: "سعاد الأعظمي"، "عصام الحسيني"، "بهادر صوان"، "سارة الشوا"، "فرحانة المصري"، هؤلاء بعد العام 1948؛ كُنَّ ناظرات مدارس حكومية في قطاع غزة، أوقفن حياتهن على التعليم، وأشعلن شمعة في هذا الظلام.
"نبيلة عبد الهادي"، كانت ناظرة إحدى مدارس غزة، وكان لها دور كبير. أنا أشهد أن النساء نقشن أسماءهن في دفتر خلود الشعب الفلسطيني. واجهنا مشكلة التوعية الوطنية، المناهج جاءتنا في ذلك الوقت مصرية، وأخذنا نفكر في الموضوع.
تعرَّفت إلى عازف عود: "أحمد سقا الله"، الذي لحَّن نشيد بلادنا. اقترحت على رئيس التعليم أن يتعيَّن في الوكالة. وعيَّنه، وبدأ ينشر الأناشيد والأوبريتات.  الشيء الرائع، أنه في الوسط النسائي كانت الوحدة الوطنية دائماً موجودة، لا أذكر لا قبل منظمة التحرير ولا بعد منظمة التحرير أن شعاراً ما رُفع عند التجمعات النسائية غير شعار فلسطين. الانتماء الوحيد، والأول والأخير، لفلسطين.
أنا كشاعر كثير جداً من قصائدي المرأة موجودة؛ المناضلة، المربية، زوجة الشهيد، زوجة الفدائي.
حتى بعد 1967، أردت أن أخلِّد العمليات التي قامت بها الأخوات الفلسطينيات، مسرحياً، أو شعرياً: "عائدة سعد"، و"دلال المغربي". وكتبت عن الشهيدة "رجاء أبو عماشة"، وعن المعتقلات: "سمر العلمي"، و"سهيلة أندراوس".
أذكر العام 1956، كان عندنا مكتب وزارة الشؤون، اللي نطبع فيه أسماء قضايا وموضوعات، نريد أن نصل إليها قبل ما يصل إليها اليهود. وكان المركز مقابل المنتزه، لم نجد أحداً يصل إلى هذا المكان؛ تبرَّعت إحدى السيدات، وذهبت، وجاءتنا بكل الأوراق.
العام 1967؛ وقعنا في نفس المشكلة، مكتب منظمة التحرير، في شارع عمر المختار، العمارة في الخط الأحمر، فيه أسماء مجمّدين، وشباب، ومعظم الأشياء موجودة في المكتب.
في المرّتين؛ التي قامت بإحضار الأوراق، وتمكنّا من حرقها كانت شقيقتي "سهام"، كانت صغيرة في 1956، وفي 1967 كانت ناظرة مدرسة، وكانت شاعرة.
كان لها دور مهم، وكانت تقول: الاحتلال هو أقسى أنواع التهلكة.
*****
حين تدلهمّ الخطوب، وتتعاظم المؤامرات ضد الشعب الفلسطيني، ويعمّ اليأس؛ تنهض الثقافة لتزرع الأمل، ولتصوِّب البوصلة: لا بديل عن العودة، ولا طريق سوى طريق الحرية، ولا مساومة في الحق، ولا سلام دون تحقيق العدل.
هارون هاشم رشيد،
أيا شاعر الثورة - كما لقَّبك الشهيد "خليل الوزير" -، و شاعر القرار 194 – على حدّ تعبير الشاعر عزّ الدين المناصرة – وشاعر العودة – كما عرَفَك أبناء فلسطين -، سوف يبقى شعرك ملهماً للأجيال الفلسطينية، وسوف لا نملّ من ترداد نشيد العودة: "إننا لعائدون/ إننا لعائدون".
[email protected]
www.faihaab.com