حكومة الفرصة الأخيرة في لبنان
تاريخ النشر : 2020-09-08 16:13

في العلن، قدم أركان السلطة السياسية في لبنان، فروض الطاعة على مذبح المبادرة الفرنسية، الذي كانت أشبه ببرنامج عمل الحكومة القادمة، ووعدوا الرئيس ماكرون، بتقديم كل التسهيلات للرئيس المكلف مصطفى الأديب، وعدم التدخل في تركيبته الحكومية.
وما أن غادر الرئيس الفرنسي لبنان، حتى عادت ريما إلى عادتها القديمة، وبدأت الطبقة السياسية، التي لا تستطيع العيش بعيداً عن جنة الحكم، في محاولة فرض شروطها على الرئيس المكلف تحت شعارات "المداورة"، وحجة الميثاقية"، والحاكمية.
ولكن العارفين ببواطن الأمور، يرون بأن المُبادرة الفرنسية "مَاشية"، وخصوصاً بعدما رفع ماكرون سيف العقوبات في وجه الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، في حال تلكؤها بتنفيذ الإصلاحات الملحة في قطاعات  شكلت محميات حزبية وشخصية، تعيث فساداً.
ومن علاماتها، تولي مدير جهاز المخابرات الفرنسية برنار إيمي الذي كان سفيرا في لبنان الملف بأكمله، وكما هو واضح فإن الإليزيه عين إيمي ناظراً على الطبقة السياسية اللبنانية وفي يده عصا يضرب فيها  متى وجد أن هؤلاء يخالفون القاعدة التي رسمت في قصر الصنوبر.
هنا بالضبط، لا يقع الخطأ على فرنسا ولا على ممارستها للوصاية في لبنان. فالخطأ هنا يقع على طبقة قاصرة تُرمى عليها مسؤولية استجلاب الانتداب الجديد وإحلاله بصورة مختلفة و"ناعمة" في لبنان.
والسؤال الآن، كيف يمكن ضمان أن تمشي وتنجح المبادرة والورقة الفرنسية، في بلد مثل لبنان، بكل ما تعنيه الكلمة.
ومن المؤكد أن رهان ماكرون على تأمين انتقال هادئ للطبقة السياسية اللبنانية خارج "جنّة" السلطة فيه الكثير من المجازفة، فالالتزامات ستصطدم عاجلاً ام آجلاً بجدار الجمود والمصالح السياسية في لبنان، وهو الجدار الذي يريد المجتمع اللبناني التخلّص منه. والمسألة تكتيكية لدى أطراف الطبقة السياسية، من زاوية "تصنع" الليونة بانتظار دنو لحظة الانقضاض.
ويمكن النظر إلى المرونة التي أبدتها القوى السياسية في لبنان، من زاوية انّ الطبقة السياسية لا تزال تميل الى المناورة والتشاطر، للتملّص قدر المستطاع من الالتزامات التي قطعتها للرئيس الفرنسي، تحت ضغط حضوره الشخصي الى لبنان وإشرافه المباشر على محاولة رفع الانقاض السياسية والاقتصادية التي خلّفتها عقود من الهدر والفساد.
فيما يستمر الرئيس المكلف مصطفى أديب في حياكة ثوب الحكومة وسط تكتم شديد وشح في المعلومات. ولغاية الساعة لا يمكن استنتاج نوعية التشكيلة التي يشتغل عليها أديب: هل ستكون وفق صيغة الـ14 وزيراً أم 20؟ وهل سيقوم الرئيس المكلف تشكيلها من خارج الاتفاق السياسي  المعتاد، مسنوداً إلى الاندفاعة الفرنسية؟
الثابت حتى الآن، أن طموح أديب أن يأتي بتشكيلة مغايرة عن السائد وتتمتع بالشروط الفرنسية وتنال مباركة الاليزيه طمعاً في فتح الخطوط الجوية أمام بيروت. وفي الطريق إلى ذلك، يُسرب أن الأسماء المفترض أن يطرحها أديب ستأتي بمعظمها بشخصيات معروفة لدى الادارة الفرنسية ومن التي خدمت في الحقول الاقتصادية والخدمية والاكاديمية والاجتماعية والدبلوماسية في فرنسا، وممن لا يتأثرون بالخارطة السياسية في لبنان. ويسند أديب ظهره الى الدور الفرنسي انطلاقاً من "مبادرة ماكرون" التي طلبت إلى أركان الطبقة الذين اجتمعوا في قصر الصنوبر، اتاحة الفرصة أمام دياب لتشكيل حكومة "وفق تصوره"، في غضون أسبوعين. على أن ينحصر دور الأركان بالتشاور فقط، وإلى غطاء المرجعيات السنية، خصوصا سعد الحريري، الذي مشى في خيار تسمية أديب، وفضل الدخول في التسوية الفرنسية كونه يُدرك أن الخراب والتدهور هو المرادف لعدم التأليف. حتى لو أن ذلك ساهم في تعويم عهد ميشيل عون، وهو في الحقيقة يساهم في تعويم لبنان. ولا يقل أهمية، تأييد البطريرك الراعي لأديب، في محاولة فرض صيغ وأسماء عليه، حيث دعاه إلى تشكيل حكومة طوارئ مصغرة.
في وقت يؤكّد من يعرفون ملابسات تكليف أديب أنّه لا ينوي الأخذ بخطوط حمر تُفرض عليه، سواء بحجّة التمثيل الطائفي، أو بحجّة تسوية واقع إقليمي معيّن، لإدراكه بأنّ الشارع وواشنطن، والغرب عينه محمرة على  الأسماء والحقائب ودلالاتها. وعلى النتيجة، سيتقرّر مستوى الدعم المتاح لمنع الانهيار وهو دعم ستقوده القاطرة الفرنسية، وسيكون شحيحاً في كلّ الأحوال، لا يتجاوز الـ 3- 4 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، هذا إذا عجّلت الحكومة العتيدة في مفاوضاتها معه.
ولقد أوجز ماكرون مهمته في لبنان وشرق المتوسط، بالقول لصحيفة "بوليتيكو" الاميركية: "لقد وضعتُ رأسمالي السياسي كله على الطاولة".
من الواضح أن  ماكرون لا يمزح، وأن عودته في مطلع كانون الأول المقبل قد يكون لها تداعيات كارثية على صعيد فرض العقوبات على المسؤولين السياسيين، والتي ظهرت بوادرها بقيام البنك الدولي بإلغاء تمويل سد بسري، إضافة إلى إلغاء مشروع معمل سلعاتا، وهما مشروعان يدعمهما العهد كرمى لعيون التيار الوطني الحر. كما أن الرئيس المكلف سيكون أقوى طالما هو متمسك بخياراته التي تتلاقى مع تطلعات اللبنانيين، وهي إما القبول بحكومة مستقلة قلباً وقالباً، أو الاعتذار عن التكليف.