قرأناها... هي ليست رؤية سلام وازدهار بل شرعنة احتلال بموافقة أصحاب الأرض!
تاريخ النشر : 2020-02-05 09:22

كتب هرتسل في يومياته : "يجب أن نتملك الارض بطريقة تدريجية وبلطف .. نشجع الفقراء من السكان على النزوح الى البلدان المجاورة عبر تأمين اشغال لهم هناك.."، وقال يوسف فيتس المسئول الثاني عن الصندوق القومي اليهودي: ".. بيننا وبين أنفسنا يجب أن يكون واضحاً أنه لا يوجد مكان في البلاد للشعبين معا .. الحل الوحيد أن تصبح فلسطين بلا عرب.." .

مات الرجلان، ولم تمت الرؤى التي تغذّي العقلية الصهيونية على مدار السنين. وما دفعني لاستحضار هذا الفكر العقيم ما قرأته مكرّراً في بنود ما يسمى الخطة الامريكية للسلام والازدهار، والتي يجادل عرّاباها كوشنير وغرينبلات أن الفلسطينيين والعرب لم يقوموا بقراءتها حتى يرفضوها.

إن لديّ اعتقاد راسخ بعدم الاستهانة بأية خطط توضع أو افكار تطرح لحل الصراع العربي الاسرائيلي، لأن من يتتبع تاريخ المخططات الصهيونية يعلم جيدا قدرتها على الممارسات الفكرية واللعب على حدود الالفاظ والمصطلحات، وإشاعة منطق تعدد الحلول أمام العرب في رحلة البحث عن السلام المفقود .

وبالعودة الى قراءتي للخطة الأمريكية، بالطبع لم أكن أتوقع خيراً بناء على معطيات الحالة السياسية لجميع أطرافها، ولكن .. هالني هذا الكذب والتزوير في الحقائق التاريخية، وهذه العجرفة والفوقية، بل وحجم الركاكة والخداع في الاسس الواهنة التي بنيت عليها هذه الرؤية أو الخطة.

وتبادر إلى ذهني سؤال: لماذا طُرحت؟ وما الداعي للاعلان عنها في حفلة تصفيق كأنها خطبة لحاخام متطرف في كنيس يهودي وليس البيت الأبيض؟ وبغض النظر عن الاعتبارات الانتخابية وانعكاسات السياسات الداخلية على كل من ترامب ونتنياهو في تبرير الاعلان عنها من قبل المحللين ، فالفلسطينيين في وضع بائس، والقضية الفلسطينية لم تعد أولوية إقليمياً ودولياً على الاجندة في المناقشات السرية والعلنية، كما أن الحرج الذي كانت تمثله لملوك وشعوب لم يعد يهم، وانتصارات نتنياهو واختراقاته الاقليمية والدولية تزكم الأنوف... فما حاجة الولايات المتحدة واسرائيل لطرح حلول للنزاع ولشغل العالم بالقضية ؟

برأيي الجواب هو الخوف .. نعم الخوف الدائم والراسخ لدى العقلية الصهيونية من الفلسطينيين ومن استمرار وجود المشكلة.. لن يهدأ بال نتنياهو ومن سيأتي بعده ومن كان قبله حتى انهاء الوجود الفلسطيني لا سمح الله .. فلا طعم لأية انتصارات مزعومة والفلسطينيون موجودون .. فالهدف من الخطة الامريكية هو طمس القضية وهذا ما تنطق به ثنايا سطورها.

ولا يتسع هذا المقال لنسف أساس كل ادعاء ومطلب في الخطة ولكن هناك ثلاثة أسس لا معقولة تحدثت عنها تكشف زيفها وزورها وركاكتها:

أولا: الركيزة الاساسية للرؤية (كما ورد فيها) هي الامن. وحين تقرأها تجد أن الامن المقصود هو أمن اسرائيل فقط وليس أمن الفلسطينيين فهو أمر غير وارد مطلقا، بل العكس ما تتحدث به الخطة هو قياس قدرة الفلسطينيين على تلبية معايير الامن الاسرائيلي، ومدى التزامهم بالحفاظ على أمن اسرائيل وما يتبعه ذلك من لجان مراجعة وتقييم ، واذا لم تنجح فلسطين حسب المعيار الاسرائيلي فإن لاسرائيل الحق في الحضور الأمني في المناطق الفلسطينية. ناهيك أصلاً عن أن الخطة تعطي اسرائيل الحق في السيطرة الأمنية جوَّا وبرَّا في الاراضي الفلسطينية وما يتطلبه ذلك من دخول وخروج حر الى هذه المناطق . وطبعا لا تنسى الخطة التنسيق الثنائي والاقليمي الأمني ضمن وضع تفاصيل متشعبة ومتضاربة .

والواقع يقول أن معالجة القضية الفلسطينية من زاوية امنية أثبتت فشلها، فعلى مدار الخمس والعشرين عاما الماضية وابتداع حلول مبتورة بأسماء كبيرة مثل مبادرات السلام الاقليمي وأمن الشرق الأوسط الجديد و..و.. الخ من هذه المصطلحات فإن النتيجة في الاقليم كانت ظهور القاعدة وداعش وازدياد الفوضى والسيولة الأمنية.

ثانيا: الأرض، تقر الرؤية الأمريكية أن جميع اراضي فلسطين المحتلة هي " موطن أجداد الشعب اليهودي" بناء على ادعاءات الاسرائيليين ومطالباتهم التاريخية والشرعية، وعليه فما ستقوم به اسرائيل هو تنازل هام! بمعنى أن الرؤية لا ترى الفلسطينيين، وكأنهم جاءوا من أوروبا وروسيا وأثيوبيا والعراق واليمن ليستوطنوا هذه الأرض. من أين أتى كتبة فرعون بهذا الكلام ؟ هذا قلب للحقائق وللتاريخ. فضلاً على أن الخطة لا تعترف بمفهوم السيادة لأنه بنظرها حجر عثرة في المفاوضات السابقة فالأمن والازدهار برأيها أكثر واقعية وأهمية.

أما القدس فالحديث عنها ذو شجون في الخطة فهي بالنسبة لليهود أقدس مكان، وللمسيحيين موطن لأكثر من عشر من الطوائف المسيحية ، بينما للمسلمين ثالث أقدس موقع في الاسلام . هذه الافتتاحية الخبيثة لبيان وزن قدسية القدس للأديان الثلاث تؤدي الى واقع سياسي هدفه تبرير اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة اسرائيل وعدم خضوعها للمفاوضات.

أما المفارقة المضحكة والهزلية فهي أن القدس أصبح لها اسمان جيروزاليم وهي عاصمة موحدة شرقا وغربا للكيان الاسرائيلي/ والقدس (أحياء صغيرة شرق القدس ) وعلى الفلسطينيين اختيار ما يرغبون به من اسم عاصمة لدولتهم (هذا ما تقوله خطة السلام الأمريكية )!!

ثالثا: اللاجئون : تزعم الخطة بأن عدد اللاجئين اليهود / نتيجة الصراع / مماثل لعدد اللاجئين الفلسطينيين، وعليه قامت بربط المشكلة المختلقة لما يسمى باللاجئين اليهود مع قضية اللاجئين الفلسطينيين!

صراحةً مشكلة اللاجئين الفلسطينيين تمثل هاجساً مخيفاً وتهديداً وجوديَّا للدولة العبرية لأنها بمثابة وقود استمرار القضية الفلسطينية، فهي الأساس في وجوديتها كونها عبارة عن شواهد حية متحركة ومتوارثة لضياع فلسطين. وطالما هناك لاجئ فلسطيني واحد ستبقى القضية.

أما فيما يتعلق بالتشبيه بين الفلسطينيين واليهود في هذه المسألة فهو أمر هراء، لأن من اقتلع من الأرض غصباً وعدواناً لا يساوى بمن جاء برغبته الى أرض الأحلام .

إنها ليست رؤية ... إنها كابوس .. خليط بشع غير متجانس من أحلام كل يميني صهيوني حشرت حشراً، وتم تجميلها ببعض الجمل والكلمات بما يسمى البحث عن السلام والازدهار.

[email protected]

_______________

نقلًا عن صحيفة القدس