إغراق الأراضي.. حربٌ على الزراعة شرق غزة
تاريخ النشر : 2020-01-13 21:43

غزة - نوى :

"30 دونمًا مزروعة بالخضراوات الشتوية تدمرت بالكامل، نرعى الأرض مثل طفل، ونتابعها لحظةً بلحظة، ثم يأتي الاحتلال ليمسحها عن وجه الأرض بغمضة عين"، بهذه الكلمات، بدأ المزارع بهاء الشمالي من سكان حي الشجاعية شرق مدينة غزة، الحديث عن أرضه التي أغرقها جنود الاحتلال الإسرائيلي بالمياه.

يتجول الشاب الثلاثيني في محيط أرضه التي غطت المياه محصولها بالكامل،  يرمق بنظرات الحزن بقايا بقايا البصل التي اختلطت مع قرون البازيلاء والطين وشبكات المياه المدّمرة.

حمل بهاء بين يديه بقايا بعض رؤوس الملفوف، ثم ألقاها بغضبٍ وقال مستنكرًا: "في كل شتاء يستهدفنا الاحتلال، ويتعمد تدمير مزروعاتنا".

جولةٌ في الأراضي الزراعية شرق حي الشجاعية يمكن أن تصيبك بالصدمة، قرابة 1000 دونم كانت مزروعة بالخضراوات أغرقتها قوات الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة في ثكنات عسكرية على الحدود الشرقية لقطاع غزة، عندما فتحت عبّارات المياه التي وضعها لاحتجاز مياه الأمطار خلفها.

عشرات المزارعين خسروا مالهم الذي دفعوه في زراعة أراضيهم، وباتوا مكبّلين بالديون، فيما تبقى فرضية الحصول على تعويض من عدمه في علم الغيب فقط.

ويعمد المزارعون عادةً، إلى الاتفاق مع بائعي الأشتال وأصحاب الجرارات ومزودي المياه العذبة والمبيدات اللازمة للزراعة، بتأجيل الدفع إلى حين بيع المزروعات التي تستغرق 70 يومًا حتى تمام النضج، فيرعاها المزارع يومًا بيوم وكأنها أحد أطفاله ليكون مصيرها في النهاية مكب النفايات أو أفواه الدواب.

يقول الشمالي وهو أب لأربعة أطفال: "زرعتُ الملفوف والسلق والسبانخ والفجل، وكلها تلفت"، لكن الأكثر ألمًا هو عدم تلقي المزارعين –ومنذ أعوام- لتعويضات تعينهم على البدء من جديد، فهم الآن تقيدهم ديون زراعة الموسم، وبات عليهم السداد من رأس مالٍ خاسر، ناهيك عن تدبير شؤون  أسرهم التي أصبحت بلا مصدر دخل.

لسنواتٍ طوال، ظلت المناطق الشرقية لقطاع غزة ممنوعة على أصحابها، فكل من يقترب كان مصيره الموت أو الإصابة برصاص الجنود المتمركزين على الحدود، حتى قرر المزارعون منذ ثلاث سنوات فرض الأمر الواقع، فتوجهوا إلى أراضيهم على مرأى قناصة الاحتلال، وعادوا لزراعتها "وأيديهم على قلوبهم" كما يصفون.

قبل أيامٍ فقط، ارتطمت رصاصةٌ بنافذة الغرفة المُقامة في أرض بهاء بينما هو داخلها، ولولا أنه كان بعيدًا عنها لطالته الرصاصة.

يعلق: "هذه ليست المرة الأولى، فالكثير من المزارعين تعرضوا لمثل هذا الموقف، لكننا لا نستطيع أن نترك مهنتنا الذي لا نعرف سواه، هنا رزق بيوتنا ولا بديل لنا عنها".

تبلغ مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة 75 كيلومترًا مربعًا، تشكل الحدودية منها ربع هذه المساحة، وهي تسهم بشكل كبير في تغطية حاجة السوق المحلي خاصةً من الخضراوات الموسمية والفواكه.

على مقربة من بهاء، وقف عارف شمالي يدخّن سيجارة، وينفث دخانها بعصبية مقاوِمًا غصةً في صوته واختناقًا في مفرداته.

عارف وإخوته يملكون 90 دونمًا مزروعةً بالخضراوات، كلها تدمّرت –على حد قوله- وأتت المياه على جهد موسم كامل.

يقول وهو يشير بإصبعه إلى حفرة كبيرةٍ مغمورة بالمياه :"هذه المنطقة تعرضت قبل مدةٍ لقصفٍ من صاروخ F16، دومًا نتعرض لإطلاق النار، وإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع نحونا، وهذا أيضًا يدمر المزروعات ويقتلها قتلًا بطيئًا".

منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م، باتت الأراضي الزراعية في فلسطين هدفًا للاحتلال الإسرائيلي، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، تعمد جرافات الاحتلال التجريف المستمر للأراضي الزراعية ما أسهم بالقضاء على آلاف الدونمات من الأشجار المعمّرة، وتقليص المساحة المزروعة بشكلٍ كبير.

يتابع عارف الشمالي: "كان لدينا أشجار دائمة الخضرة، كالزيتون والتين والبلح، لكن بعد تجريفها لجأنا إلى المحاصيل الموسمية، لكن حتى هذه، كان الاحتلال يستهدفها دومًا بالرش بالمبيدات السامة بواسطة الطائرات، ناهيك عن القصف الذي يدمر مكونات التربة، ولا ندري في المرحلة القادمة ماذا سيكون مصير الأرض".

يقدر شمالي خسارته بـ 15 ألف دولار مبدئيًا، إضافة إلى 70 شيكل للساعة الواحد في الري، إذ لا يستطيع أي مزارع حفر آبار في تلك المنطقة خشية استهدافه بنيران القناصة.

وكما العادة، يفتح الاحتلال عبّارات المياه أكثر من مرة في الموسم الواحد، ما يعني أن الأراضي الزراعية ستظل مهددةً بالتدمير حتى انتهاء موسم الشتاء، وبدء الموسم الزراعي الجديد في شهر مارس المقبل، وفي حال هطلت الأمطار فإن المزارعين سيخسرون الموسم الصيفي أيضًا كما يؤكدون.

المهندس مدحت حلس، مدير برنامج الطوارئ في الإغاثة الزراعية، قدّر حجم الأراضي التي طالها الدمار بألف دونم، وقال: "أقام الاحتلال الإسرائيلي هذه السدود على طول الحدود مع قطاع غزة، بهدف سرقة مياه الأمطار القادمة إلى القطاع بفعل ميل الخزان الجوفي، وهذا تسبب في أزمة المياه التي يعانيها القطاع".

ولكن عندما تعجز هذه السدود عن حجز المياه بفعل كثافة الأمطار، يفتح الاحتلال عبّاراتها صوب أراضي المواطنين الزراعية، فتتسبب في تدميرها كما حدث في الشجاعية وغيرها من المناطق.

هذه الأراضي كما يوضح حلس كانت مزروعة بالخضراوات والقمح والشعير، وقد عمل أصحابها على تأهيلها بخطوط وشبكات ري، كلُّها أصابها التلف، وهذه مشكلة إضافية.

وقدّر المبلغ الأولي لقيمة الخسائر في المنطقة بـ 300 ألف دولار، إضافةً إلى الخسائر غير المباشرة على المزارعين "من ضياع جهدهم، وفقدان موسمهم الزراعي، وعدم قدرتهم على إعالة أسرهم، وتراكم الديون عليهم".

وتسهم الأراضي الزراعية الواقعة شرق القطاع بشكلٍ كبير في توفير السلة الغذائية لقطاع غزة، وهي مصنّفةٌ كمناطق مقيّدة الوصول، إلا أن اعتداءات الاحتلال عليها لم تتوقف منذ عام 2000م حتى الآن.

ويناشد حلس المؤسسات الحقوقية بتوثيق هذه الانتهاكات، ونقل تفاصيلها إلى المحافل الدولية لفضح جرائم الاحتلال وإجباره على إيقافها، مؤكدًا أن "الإغاثة" ستعقد اجتماعًا عاجلًا مع داعمين استراتيجيين للقطاع الزراعي بغزة "سيعملون على زيارة الأراضي، وتوثيق صور الدمار الذي لحق بها من أجل توفير الدعم اللازم لها وإعادة تأهيلها".

أيًا كانت نتائج الاجتماعات، ومهما ارتفع سقف الوعود للمرحلة القادمة، هناك حقيقةٌ واحدةٌ يعيشها مزراعوا تلك المنطقة "الدمار الحالي لا يمكن إنقاذه، والخسارة أضحت واقعًا مرًا".. ويبقى الأمل في الموسم القادم خيرًا، لعله يكون بعيدًا عن مكر الاحتلال.