قتلة البيوت وجرائم لن تسقط من ذاكرتنا..!
تاريخ النشر : 2019-11-14 21:46
لوحة للفنانه لبنى ياسين

إذن هي الحرب مرة أخرى لا ليست حربا لكنها تحمل كل سماتها.. الشوارع ساكنة على غير عادتها، لا صوت لصغار جيراننا إلا الصراخ الذي يعقب كل انفجار لصاروخ منتهك لمساحة الحياة، ينفجر كشيطان في وجه أحلامهم الصغيرة.! حتى كرة القدم الشاحبة في قلب حارتهم لم يعد متاحا، كل أم تختطف ابنها وصغارها وتغلق الأبواب، لا مظاهر للحياة الآن فقد تربع رداء الموت في وجه الحارات والشوارع، وبدت المدينة جافة تنشد ماء يروي عطش الدماء التي سيلت.. مئات آلاف الأسر والعائلات تعيش حالة الموت كل لحظة، بعضها يفجعه الموت سريعا، وبعضها يعيش الموت لتستمر الحياة..

غزة لا تشبهها مدينة فهي مدينة عنيدة لا تنحني للموت، تحتضن في مرفأها مخزونا من الحياة لوقت تكاد تفقد فيه أنفاسها، فتولد من جديد رغم أن الدموع تبلل صوتها وقد اخترقت صواريخ الغدر جسدها، ورغم أنها على التلفاز تبدو مكلومة موجوعة إلا أنها تبتسم رغم موتها وتعلم الأغبياء دروسا في الكرامة

كم بيت قتل اليوم والأمس؟ كم يد سقطت لبيوت المخيم؟ وكم قلب اخترقته صواريخ الاحتلال الإسرائيلي القاتلة فسقط البيت سقطة واحدة وبات جزءا من وجه الأرض التي استند لها عمرا...!

كم بيت سقط الآن في غزة وانسابت دماؤه في الطرقات فبلل عطش المدينة؟!! وكم من ألبومات لصور الأطفال قد تبعثرت ولفها الغبار والحجارة؟!، كم بيت لم يعد يحتضن عائلته التي اعتنت به ورسمت به بصمتها فرحها وحزنها؟؟! كم بيت كسر قلبه بعد أن شهد موت بيوت صديقة عاش بينها ومعها ومع أصحابها؟؟!!

كم بيت انفطر قلبه وقد أصبح كومة أتربة وحجارة لم يعد بإمكانه أن يحمي أصحابه فبعضهم انصهرت حجارته بلحمهم وأشلاءهم فغادروا دنيانا وتركوا الألم والقهر لمن ظلوا أحياء...!!

بيت يكاد يلقي بتحية الصباح على أصحابه وجيرانه، يلملم عيناه الذابلتان من سهر ليلة طويلة مؤرقة لكل غزة، يستدعي الابتسامة لأجل يوم طويل، لم يعرف أنه يومه الأخير، يكاد يوقظ الصغار الغافلين بعد أن ناموا ليلتهم بلا كهرباء وبلا لعب وبدأوا يستيقظون دون أن يفكروا بمدارسهم فقد التزموا البيت الحامي يوم أمس، وأغلقوا آذانهم كلما لدغهم صوت الانفجارات في مدينتهم، احتضنوا جدران بيتهم بينما ركضت أمهم كالملدوغة تحمل أصغرهم وتصرخ بلا صوت ولا كلمات.. كانت عيناها جاحظتان ووجهها قد أصابه السواد، لم يفهم الصغار فدفعتهم أيدي أمهم المرتجفة إلى باب البيت.. لم يفهم الصغار كيف يتركوا الملاذ الوحيد الآمن لهم؟! كيف يتركوا درع حمايتهم من اعتداءات الاحتلال المستمرة؟!، سمعوا صرخة ألم شديد تصدر عن بيتهم وصلوا بيت الجيران بسرعة البرق.!! ركضوا وهم يصيحون.. بيتنا.. يا أمي...!! التفتوا جميعهم والجيران المذعورين لبيتهم الذي بالكاد اكتمل بناؤه بعد أن مات في حرب سابقة، وأعاد أبيهم احياؤه بعد سنوات طويلة من التشرد والفقدان...!! لم يفهم الصغار لما يتألم بيتهم ولما يقع على ركبتيه ولما يسقط ميتا أمامهم ويلفظ أنفاسه الأخيرة أمام مرأى أعينهم بعد أن دكته صواريخ الغدر الإسرائيلية...!!

 البيت قتل وتلطخت وجوههم بدمائه بينما هم يحدقون في سحب الدخان السوداء التي حالت بينهم وبين حضنهم الأخير...!! قتل البيت وهم لم يعودوا أحياء فقد تبخرت أحلامهم من بعده.. من سيكتب عن ألم البيت وجراحاته؟!! من سيفهم أوجاعهم وعلاقتهم الدافئة يوما ما...!! من سيفهم كيف سيدفن بيتهم وكيف سيكفن؟ وكيف سيصلى عليه؟ وكيف سيفتح بيت عزاء كبير لأجله؟؟!! كيف سيفهم العالم ماذا يعني لك بيتا يقتل أمامك دون أن تملك حق الدفاع عنه؟!! من ذا الذي سيصور فيلما ذات يوم عن بيتهم المقتول؟ ومن سيحاسب قتلة بيتهم؟!! كيف سيرفع الصغير حين يكبر شكوى في الأمم المتحدة فيمن غدروا ببيتهم وقتلوه؟!!

يومين زحفا على قلب أهل غزة وكأنما عامان مليئان بالموت والفقد واللوعة والغضب، مئات المشاهد الحزينة الموجعة التي تولد الألم كل ثانية، الفجيعة التي يشعر بها أهل غزة كبيرة وقاسية حد القطع، قطع الأنفاس وقطع الأمل لكنك تجدها مدينة الألم والأمل، تجدها تقف رغم وهنها فتغدو أقوى من أعتى الدول.. مدينة لامحدودة بصدقها ونبلها في الدفاع عن بيوتها وأبنائها.. نعم غزة مدينة عنيدة لا تشبه المدن التي تغفو باكرا أو تلك التي تصحو على زقزقة العصافير.. مدينة أرضعتنا العزة والكرامة لا نعول على غيرنا.. فهي تتألم ثم تنهض قد تغفو قليلا لكنها لا تنام أبدا.. هل ستجد يوما مدينة ساحرة بالحياة كغزة، لن تجد لأنها مدينة الموت لذلك فهي تحتفي بالحياة الحياة...!!

قتل البيوت الفلسطينية من قبل الاحتلال الإسرائيلي وطيرانه الجبان هو سياسة مدانة تتعمد انتهاك قواعد القانون الدولي التي تحظر استهداف المدنيين وممتلكاتهم، وهي جريمة لا تسقط بالتقادم ولن تسقط من ذاكرتنا وذاكرة أصحابها.!

ـــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية